مقالات  
نسخ الرابط
 
   
   
 
  A A A A A
X
dot4line

آخر الأحزان في مصر

عبدالله بشارة
2014/01/19   10:04 م

شكرا لتصويت

التقيم التقيم الحالي 0/5
writer image



صوت الشعب المصري على استفتاء الدستور بأغلبية ساحقة متوقعة بعد ان أنهت لجنة اعداد الدستور المشروع ووضعته أمام الخيار الشعبي، ولا يحتاج القارئ الى وقت طويل لكي يكتشف بأن الدستور المطروح هو شيء آخر لم تعرفه مصر منذ استكمال استقلالها كما جسده دستور 1923، ففي الدستور الجديد بنود لم تكن أمام شعب مصر أيام سعد زغلول، وهذا الجديد سينقل مصر اذا ما تم تطبيقه والالتزام به، الى مكانة مرتفعة في مواكبة العصرنة والانفتاح للحداثة وتعظيم الحريات وحماية آدمية المواطن وتوفير المناخ الملائم للابداع والانطلاق في الحرية مع ضبط ملزم لتدوير السلطة واغلاق المنافذ التي يتسرب منها الاستبداد وحكم الجيش والمخابرات.
ولابد من توجيه التحية والتقدير لأعضاء اللجنة التي يترأسها الوزير المعروف عمرو موسى وتألقه عبر الصبر وسعة الصدر والتنقيب عن الجسر العابر للتباينات والباحث عن الحلول الممكنة، وبهذه الكياسة والمرونة والخبرة نجحت هيئة الاعداد في تقديم دستور لائق بجمهورية مصر العربية.
وآن لهذا الشعب الصابر في هذه الدولة التاريخية ان يرتاح ويعيش بأمل، ويعمل باطمئنان وينتظر بتفاؤل الغد المريح.
منذ الحرب العالمية الثانية لم تهدأ مصر، ولم يرتح شعبها لمسببات كثيرة لكن أبرزها نوعية القيادة التي تولت مسؤولية هذا البلد العريق، لم يكن الملك فاروق جديرا بحكم مصر، فلم تتوافر له القامة الفكرية ولم يكن له القدرة على حيوية القيادة، كان رجلا بسيطا قليل التعليم، يفتقر للرغبة في الاطلاع، كسولا ذهنيا وميالا نحو الارتياح والاستمتاع في حياة الملوك.
لكنه، على الرغم من افتقاره للحنكة والكياسة وجهله في الحقائق التي تحيط بمصر، اتخذ قراره بدفع الجيش المصري في حرب فلسطين 1948 على الرغم من تحذيرات قيادة الجيش في عدم جاهزية القوات المسلحة لدخول الحرب، ورغم معارضة رئيس الوزراء النقراشي باشا، لكن الملك متأثرا بحماس الاخوان المسلمين، وخوفا من تسيد الملك عبدالله بن الحسين للنفوذ الاقليمي، ورط الجيش في معركة خاسرة كان حصيلتها ان جردته ثورة 1952 من عرشه وأرسلته كئيبا الى منفى الوحدة والأسى في أيطاليا.
جاء حكم الثورة بدعم من الشعب المتعطش للسكينة والاطمئنان والتطور، لكن الآمال لم تترجم الى أفعال، فقد عاش الشعب في العهد الناصري أجواء تتنقل بين حروب مدمرة وأزمات متواصلة، لأن الرئيس عبدالناصر طرح مشروعا عروبيا قوميا يضع على مصر مسؤوليات القيادة العربية بالاضافة الى أخرى في أفريقيا وآسيا، واستراتيجية مناوئة للمصالح الغربية، ودخل في مشاحنات مع العرب الآخرين الرافضين لمشروعه، وجر مصر الى خناقات مع العواصم العربية التي لم تعتد عليها شهية مصر ولا تتفق مع طينة شعبها المعطاء ولا تنسجم مع تكوينها التاريخي، فعاشت طوال تلك الفترة في توتر استنزف طاقاتها مع اندفاع قيادتها في مغامرات غير محسوبة أدت الى كارثة 1967، التي لم يتشاف منها العرب، وأتت بحقائق مضرة لم يعرفها التراث المصري، الذي دفع ثمنا للطموحات الواسعة للقيادة.
جاء الرئيس السادات، القائد المصري الوطني المسكون بكابوس الاحتلال عازما على وضع نهاية للوضع المزري الذي أفرزته الهزيمة، وكرس كل جهده وجند امكانات مصر وسخر خزينتها لحرب 1973، التي قادها بنجاح وبصلابة متحملا المسؤولية التاريخية، عبر فيها الشعب المصري عن عزم وحسم وعطاء وطني سخي أنهى الاحتلال الاسرائيلي من الاراضي المصرية، ودفع السادات حياته ثمنا لشجاعته وكياسته السياسية لأنه تجاوز المفاهيم المتوارثة.
تميز عهد حسني مبارك بالحرص على البعد عن اغراء المغامرات وظل وفيا لهذا المبدأ الى ان هزمه الجمود وتكاثف الصدأ على قيادته.
تعود مصر الآن كما أرادها سعد زعلول وكما رسمت خريطتها كوكبة المفكرين والمثقفين المصريين الذين أرادوا مصر مشعلا اقليميا للاستنارة والتحديث المؤسس على نظام دستوري ديموقراطي جوهره الحرية وهدفه الرقي بالانسان وباحتياجاته مع ضمانات بأن مصر لن تتعايش مع آليات المخابرات ولن يخضع شعبها للاستبداد ولن تتعثر طموحاتها بحروب وأزمات، مع الاطمئنان بأن القيادة ستكون من نصيب القادرين الذين يخضون للمساءلة والاستجواب ولن يطول بقاؤهم بامتيازات القوة والسطوة.
نقول إن مستقبل مصر مرتفع ومتميز اذا ما ارتفعت سطوة القانون وحق الكفاءة واحترام الابداع وحق الانسان في امتلاك الثروة الشرعية على قاعدة المساواة والعدالة بين جميع المواطنين..
ما هي مسؤوليات مصر الجديدة لمواكبة المستقبل؟
أولا – الاعتراف بأن القوة الناعمة هي ثروة مصر الحقيقية، وهي التي تتفق مع طبائعها ومزاجها، وهي المنابع التي ربطتها بالعالم العربي وبالجوار الأفريقي وبالشمال الأوروبي، عبر الانتاج المتنوع من كتابها وفلاسفتها ومؤسساتها الثقافية والفكرية.
مصر لم يخلقها الله للمضايقات والمناحرات وخشونة المخابرات ومكائد المغامرات.
ثانيا – تدخل مصر عهدا لا مكان فيه للزعامات الجماهيرية الجاذبة على طريقة جمال عبدالناصر أو الدهاء السياسي كحال السادات ولا الهيبة الكاذبة متمثلة في فاروق، مصر الآن طوت صفحات تاريخها المشحون بوقائع تريد ان تبتعد عنها وتعود الى الرقة واللطافة والحميمية التي ميزتها قبل مواسم الاضطرابات في الخمسينيات والستينيات.
ثالثا– لا مفر من التركيز على التنمية وتطوير الاقتصاد وارتفاع بمستوى المعيشة مع تقبل شروط هذه الأهداف في ضرورات الانفتاح العام للاستثمارات وحمايته وتشجيعه وخلق مناخ يتآلف مع حقوق المستثمرين والتخلص من التعقيدات الادارية، وتحويل مصر الجديدة الى مأوى للقطاع الخاص المصري والعربي والأجنبي مع توقف عن تصوير هذا القطاع كغول يأكل حقوق المصريين، والعمل الجاد على اعادة خريطة توجهات الاقتصاد المصري دون تردد.
رابعا– اقامة شبكة واسعة قائمة على علاقات مصرية – عربية تتداخل فيها المصالح وتنساب فيها التفاهمات السياسية في علاقات تعتمد على تبادلية الاحترام والمنافع دون السماح للشعارات الراديكالية البائسة التي أضرت بالجميع في تصنيفات جاهلية وتمحورات بين المحافظة وغيرها.
ترتفع مصر مع العرب ويرتفع العرب معها في ترابط أخوي مبني على الثقة والاطمئنان.
خامسا - لا ديموقراطية دون حرية رأي وصون التعبير وحق الشعب المصري في معرفة الحقائق التي ارتبطت بتاريخه دون تعتيم على أحداث سجلها التاريخ المصري وأرادت ثورة 1952 مسحها من خريطة حياته، مع السماح بكشف الأرشيف الذي يختزن الكثير من المعلومات والأحداث منذ سقوط النظام الملكي وقبله ان توفر ذلك.
سادسا - لابد من تفكيك البنية الاقتصادية والاجتماعية من القيود التي أضرت مصر كثيرا في مجالات التنمية وتحسين المعيشة والثقافة والفكر وتوسيع نوافذ الانفتاح على منابع الفكر العالمي والترابط مع العولمة بكل ما يفيد منها.
سابعا – وأخيرا، تبقى ضرورات تحقيق التوافق الشعبي حول مسيرة المستقبل، وتأكيد الحسم عبر التفاهم السياسي وقاعدة الأخذ والعطاء، ولا يمكن الاستهانة بقدرة الاخوان على صناعة الاضطرابات وتبني الاندفاع في الارهاب التخريبي الذي لا يخسر شيئا وقد يقهر الآمال التي ينشدها الشعب في الهدوء والاستقرار والسلم الاجتماعي.
أخر الكلام بأن مصر ترتفع فقط بالتلاقي الشعبي وتكبر بالتخلص من قيود الأيديولوجيات والسفسطات السياسية والأحلام الرومانسية وتتآلف مع العرب مزودة بتقاليدها التاريخية في التودد والتعارف المفيد، لا بواسطة الغلاظة الراديكالية التي لوثت تاريخها الناصع.

عبدالله بشارة
أخبار ذات صلة dot4line
التعليقات الأخيرة
dot4line
 

!function(d, s, id) { var js, fjs = d.getElementsByTagName(s)[0], p = /^http:/.test(d.location) ? 'http' : 'https'; if (!d.getElementById(id)) { js = d.createElement(s); js.id = id; js.src = p + "://platform.twitter.com/widgets.js"; fjs.parentNode.insertBefore(js, fjs); } } (document, "script", "twitter-wjs");
3350.0046
 
 
 
إعلن معنا
موقع الوطن الإلكترونية – حقوق الطبع والنشر محفوظة
 
Top