مقالات  
نسخ الرابط
 
   
   
 
  A A A A A
X
dot4line

قبل أن يهزم الجميع والوطن أولهم

فهمي هويدي
2012/08/14   05:42 م

شكرا لتصويت

التقيم التقيم الحالي 0/5
writer image



أخشى ما أخشاه أن تستهلك المعارك الصغرى طاقاتنا وتصرفنا عن خوض المعارك الكبرى

ينبغي أن نعترف بتداخل الخطوط بين حرية التعبير وبين سب رموز الحكم الراهن والحط من هيبة الدولة




لا يزعجنا أن تتابع الزوابع على مصر خلال الأسبوع الأخير، لكن المزعج حقا أنها جميعا لا علاقة لها بالآمال المعلقة على الثورة وأنها بمنزلة استدراج لنا لخوض معارك عدة على الجبهة الغلط.

(1)

خذ مثلا تداعيات جريمة قتل 16 ضابطا وجنديا مصريا في رفح، التي أصابتنا من حيث لا نحتسب، فسمَّمت العلاقة بين مصر وقطاع غزة، وأفسدت المناخ الايجابي الذي لاح في الأفق بعد الثورة، الأمر الذي هيأ فرصة تصويب آثار التوتر الذي فرضه النظام السابق. اذ ما ان وقعت الواقعة حتى أشاعت بعض الأبواق في مصر ان غزة لها صلة بالجريمة، على الرغم من ان من الاسرائيليين روني دانئيل معلق الشؤون العسكرية في القناة الاسرائيلية الثانية وألون بن دافيد معلق الشؤون العسكرية في القناة العاشرة مثلا من أكد أنه لا يوجد لدى اسرائيل أي دليل يربط بين غزة وبين ما جرى في رفح.
شغلت الجريمة الرأي العام في مصر، وأسهم الشحن الاعلامي المضاد في تأليب الشعب المصري على الفلسطينيين، وكانت هيئات التقدير الاستراتيجي في اسرائيل والأجهزة الأمنية المعنية قد اعتبرت ان بروز تعاطف المصريين مع الفلسطينيين بعد الثورة من شأنه يقيد حرية اسرائيل في القيام بأي عمليات عسكرية ضد قطاع غزة، وهو هاجس تراجع نسبيا بعد وقوع الجريمة وحملات التعبئة المضادة للفلسطينيين التي ترتبت عليها. ولا يقل أهمية عن ذلك ان وقوع الجريمة أربك السياسة الخارجية المصرية ووضعها في موقف حرج. ذلك أنه وفر ظرفا قلص من قدرة القيادة الجديدة في مصر على اعادة تقييم السياسة الخارجية واعادة بلورتها على شكل مغاير لما كانت عليه في ظل النظام السابق. وهو ما عبر عنه بشكل فج ودون مواربة وزير الخارجية الاسرائيلي أفيغدور ليبرمان حين قال ان مصر مطالبة بتعلم الدرس مما جرى في رفح لمواجهة أعدائها الحقيقيين، وكان يقصد باشارته المقاومة الفلسطينية في غزة.
لقد سارعت اسرائيل الى توظيف الجريمة من خلال ابتزاز الرئيس الأمريكي باراك أوباما، اذ شرع ديوان نتنياهو في الاتصال بالقيادات الجمهورية والديموقراطية في الكونغرس، لمطالبة الرئيس الأمريكي بالضغط على القيادة المصرية ومطالبتها بعدم احداث أي تغيير على السياسة التي كانت متبعة في ظل النظام السابق، خصوصا فيما تعلق بظروف الحصار والعلاقة مع حركة حماس أو حتى مع ايران، وكانت الرسالة واضحة في ان المطلوب ان تظل السياسة الخارجية لنظام مبارك مستمرة بعد الثورة، بحيث تبقى أسيرة مربع «الاعتدال» المطلوب أمريكيا واسرائيليا، ولا تتقدم بأي خطوة الى الأمام.

(2)

خذ مثلا الضجة المثارة حول ما سُمى «بأخونة» الاعلام وتقييد حرية التعبير، والمشكلة الأولى أثيرت بمناسبة قرار مجلس الشورى تعيين 50 رئيس تحرير جديدا للصحف القومية، والثانية برزت بعد وقف بث احدى القنوات الفضائية، وهما القضيتان اللتان احتلتا حيزا واسعا من التغطية والتعليق والضجيج في مختلف وسائل الاعلام، في حين ان الأولى فرقعة أخطأت الهدف، والثانية مجرد زوبعة في فنجان.
بطبيعة الحال فان المنطق المهني لا يقبل ان يتولى مجلس الشورى تعيين رؤساء تحرير الصحف القومية أو غير القومية، كما ان أي عقل سياسي أو وطني لا يقبل فكرة أخونة الاعلام، ولكن المشكلة الحقيقية لم تكن في القرار الذي اتخذته اللجنة المختصة بمجلس الشورى بخصوص التعيينات، لكنها تكمن في مبدأ اختصاص المجلس بهذه المهمة، وهو اختصاص نص عليه القانون، الذي اعتبر الصحف القومية مملوكة لذلك المجلس، الأمر الذي كان غطاء لسيطرة الحكومة والأجهزة الأمنية على الصحف القومية، لذلك فانه حين طعن في ممارسة مجلس الشورى لذلك الاختصاص، فان المحكمة الادارية العليا وتقرير هيئة المفوضين رفضا الطعن، لأن ممارسته تمت في حدود التفويض القانوني، لذلك فان الاعلاميين حين وجهوا سهامهم الى مجلس الشورى فانهم أخطأوا الهدف، لأن المشكلة في القانون الذي خوله ذلك الاختصاص، وليست في المجلس الذي باشره، وهو ما يسوغ لنا ان نقول ان الضجيج الذي أثير شغل الناس بمعركة نخبوية مغلوطة.
مسألة الأخونة أيضا تبين أنها جزء من الكيد السياسي ولا أصل لها في الواقع، فرؤساء التحرير الذين تم تغييرهم ينتمي أغلبهم الى النظام السابق، بمعنى أنهم كانوا جزءا منه، وأن اختيارهم تم بتزكية من جهاز أمن الدولة، وقد ظل وجودهم محل قبول ورضا من جانب الذين أثاروا الضجيج وأطلقوا عاصفة النقد، صحيح أنني أستغرب الأسلوب الذي اتبع في محاولة تغييرهم، حين وضعت معايير لاختيار بدائلهم وفتح الباب لترشح من توسم في نفسه جدارة بشغل المنصب، وهو أمر غير مسبوق في المهنة، الا ان ذلك كان اجتهادا في ممارسة الاختصاص بدا أقل سوءا من ان يتولى جهاز أمن الدولة ترشيح رؤساء التحرير، الا ان ما يهمني في الشق المتعلق بالأخونة ان المرشحين جميعا 241 صحافيا لم يكن بينهم عضو في جماعة الاخوان، وكانت النتيجة ان الخمسين الذين وقع عليهم الاختيار لم يكن أحد منهم عضوا في الجماعة، بل ان منهم من نعرف ان لهم خصومة معها، ومنهم من كان زبونا في القناة التي تم اغلاقها.
كما ان الثورة على مجلس الشورى كانت نموذجا للمعركة الغلط، فان إلغاء تصريح القناة بدا نموذجا للاجراء الغلط، الذي لا علاقة له بحرية التعبير التي هي الآن أوسع منها في أي عهد عرفته مصر في تاريخها الحديث، ذلك أنني تمنيت ان تحاسب القناة أو غيرها من منابر الانفلات والتحريض الاعلاميين أمام القضاء وليس من خلال الأساليب البيروقراطية الملتوية (هيئة الاستثمار مثلا).
في هذا الصدد ينبغي ان نعترف بتداخل الخطوط بين حرية التعبير وبين سب رموز الحكم الراهن والحط من هيبة الدولة، الأمر الذي وضعنا بازاء حالة من الانفلات الاعلامي الفج، الذي سمح مثلا بوصف رئيس الجمهورية بأنه جبان وعميل للأمريكان، كما سمح لمحرر القناة المذكورة بالإعلان عن اهدار دم رئيس الجمهورية، الى غير ذلك من المواقف والعناوين التي يستحي المرء من ذكرها وحفلت بها صحف الاثارة التي أدارت ظهرها للثورة وتفرغت للكيد السياسي واشغال الناس بالمعارك الوهمية والمغشوشة.

(3)

خذ أيضا مشكلة انقطاع التيار الكهربائي التي عانى منها ملايين المصريين في الأسبوع الماضي حتى أثارت غضبهم ونقمتهم، خصوصا حين تزامن ذلك مع موجة الحر وشهر الصيام، ليس لدينا ما يدل على ان ذلك كان متعمدا، وأغلب الظن أنه تم لأسباب أخرى اجتمعت مع بعضها البعض في الآونة الأخيرة، منها ما تعلق بالتحميل الزائد وارتفاع معدلات الاستهلاك، ومنها ما تعلق بحوادث سرقة الكابلات التي قرأت أنها هددت باشاعة الاظلام في صعيد مصر كله. وربما منها أيضا ما تعلق بالنقص في المازوت المستورد المطلوب لتشغيل بعض المحطات، أو بالحاجة الى الصيانة والاحلال والتجديد...الخ.
أيا كان السبب فالشاهد أننا فوجئنا أخيرا بمشكلة فُرضت علينا ولم تكن في الحسبان، وقد قيل ان المشكلة كانت قائمة في بعض المحافظات الأخرى التي لم يكن صوتها مسموعا، لكنها حين ضربت القاهرة الكبرى علا صوت الاحتجاج مدويا في الفضاء المصري، حيث تجاوز أثرها نكد البيوت والتسبب في انقطاع المياه عن الطوابق العليا، وشمل تعطيل مترو الأنفاق وايقاف تعاملات البورصة والبنوك.
ما يلفت النظر في هذا الصدد ان السلطات المعنية التزمت الصمت ازاء ما يجري، وباستثناء تصريحات مبتسرة صدرت عن بعض المسؤولين ردا على أسئلة الاعلاميين، فاننا لم نجد مسؤولا كبيرا يخرج على الناس ويشرح لهم الحقيقة بصراحة وشفافية، ويعطيهم أملا في حل المشكلة في أجل يحدده، أو على الأقل يحدد لهم ما يستطيع ان يفعله وما يتجاوز قدراته (النقص في موارد العملة الصعبة مثلا الذي يعطل الاستيراد من الخارج).
قل مثل ذلك في حوادث قطع الطرق، التي تفشت في الآونة الأخيرة، بحيث أصبح بمقدور أي جماعة من الغاضبين لأي سبب ان يجتمعوا فيما بينهم ويقرروا قطع الطريق العام لايصال صوتهم الى الذين لا يسمعونه، ذلك غير الخارجين على القانون الذين باتوا يستسهلون قطع الطرق للاستيلاء على السيارات الفارهة أو على ما بحوزة العابرين وهو ما أصبح يقلق كثيرين، خصوصا حيث يلاحظون ان الأمر لا يعالج بالجدية والحزم اللازمين، ومن الجدية ان يشعر الناس بأن لديهم وسائل أخرى لإيصال أصواتهم والاستماع الى مشاكلهم، ومن الحزم ان تشدد عقوبة قطع الطرق اذا ما لزم الأمر، وأن تشترك القوات المسلحة في تأمينها.

(4)

لا أريد ان أقلل من شأن هذه المشكلات، لكنني أرجو ألا نختلف على اعتبارها مشكلات صغرى وفرعية اذا قورنت بالتحديات الكبرى التي انطلقت الثورة لمواجهتها والنهوض بها سواء تعلقت بالتنمية أو الحرية أو العدالة الاجتماعية، لذلك فأخشى ما أخشاه ان تستهلك المعارك الصغرى طاقتنا وتصرفنا عن خوض المعارك الكبرى، لا يقل عن ذلك سوءا ان يغرق الوطن في الاستقطاب بين القوى السياسية، الأمر الذي يقوض الاجماع الوطني ويشل القدرة على أي تقدم باتجاه تحقيق شيء من أهداف الثورة.
واذ يتوجب علينا ان نتحلى بشجاعة ممارسة النقد الذاتي لتحديد مسؤولية كل طرف عن الارتباك والخلل الماثلين، فاننا أيضا لا نستطيع ان نعفي النظام السابق من المسؤولية عن تخريب وتدمير مؤسسات المجتمع وقواه الحية عبر ممارساته التي استمرت ثلاثين عاما، وهو ما أصابها بدرجات مختلفة من التشوّه والاعاقة، ولست أشك في ان تلك الاعاقة تعد مصدرا أساسيا للحروب الأهلية الباردة المستعرة في مصر منذ قامت الثورة، الأمر الذي غذى شهوة الاقتتال وكاد يبدد الأمل في التوافق حول تحقيق حلم البناء والتقدم.
لقد بات الانذار والتحذير واجبين، من ان الاقتتال الراهن لن يكون فيه منتصر ومهزوم، ولكن المحصلة التي قد تفاجئ الجميع ان الكل سيهزم في نهاية المطاف، والوطن أولهم، وفي هذه الحالة لن نكون بحاجة الى مؤامرة لإجهاض الثورة، لأن حروبنا الأهلية ستوفر للمتآمرين جهدهم وتحقق لهم مرادهم.

فهمي هويدي
أخبار ذات صلة dot4line
التعليقات الأخيرة
dot4line
 

!function(d, s, id) { var js, fjs = d.getElementsByTagName(s)[0], p = /^http:/.test(d.location) ? 'http' : 'https'; if (!d.getElementById(id)) { js = d.createElement(s); js.id = id; js.src = p + "://platform.twitter.com/widgets.js"; fjs.parentNode.insertBefore(js, fjs); } } (document, "script", "twitter-wjs");
499.0094
 
 
 
إعلن معنا
موقع الوطن الإلكترونية – حقوق الطبع والنشر محفوظة
 
Top