مقالات  
نسخ الرابط
 
   
   
 
  A A A A A
X
dot4line

أخلاقٌ.. أم فوضى؟ (1)

الشيخ محمد خليل هراس - رحمه الله –
2014/03/23   08:29 م

شكرا لتصويت

التقيم التقيم الحالي 5/0
writer image



لفضيلة الشيخ محمد خليل هراس - رحمه الله –
رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية (سابقاً)

هل قرأت كتاب الشيخ خالد محمد خالد (1) الجديد (هذا أو الطوفان)؟وهل أتاك نبأ هذه الأخلاق الجديدة التي يبشّر بها في هذا الكتاب ويدعو اليها في حرارةٍ وايمان، معتقداً أنّها المنقذ الوحيد لهذه الأمة من الطوفان؟وهل سمعت عن (أبيقور) و(أرستب) وغيرهما من فلاسفة اللذَّة القدماء؟وهل تعلم ان الشيخ خالد يسعى جهده في هذا الكتاب لاحياء تلك المذاهب القديمة التي لا تقيم وزناً لدينٍ ولا لفضيلةٍ ولا تعرف الا اللذة ولا شيء غير اللذَّة؟
ان كُنتَ لا تعرف شيئاً من ذلك أيها القارئ فأنا أدلُّكَ على الكنزِ الثمين الذي تعثر فيه على هذه الفلسفة الأخلاقية الرائعة، انّه كتاب الشيخ خالد الجديد.نعم: ومن أقدر من الشيخ خالد على كتابة مثل هذه الحماقات؟ ومن أجرأ من خالد على نفث هذه السُّموم التي لا تَذَر من شيءٍ أتت عليه من معنوياتِ هذه الأُمّة وفضائلِ دينها الا جعلته كالرميم؟
ومِن العجيب ان ينشر هذا الكتاب ويطبع للمرة الثانية وتتداوله أيدي الألوف من شباب هذه الأُمّة دون ان نسمع صيحةَ انكارٍ واحدةٍ تقول لهذا المؤلّف الذي يريدها فوضى ماحقة ودماراً سريعاً: على رِسْلِك أيها الداعي الى شيء نُكُرْ، والمُشعل نارَ فتنةٍ لا تُبقي ولا تَذَرْ، وتقول للناس المخدوعين بهذا المؤلّف وأمثاله: احذروا هؤلاء الذين يتجرون بأثمن مقومات حياتكم وأعزها عليكم، والذين يردونكم باسم (العلم والمدينة) الى دركات البهيمية السافلة والشهوات القاتلة.
يزعم الشيخ خالد أنّه يتكلم في كتابه بلسان العلمِ القائم على التجارب الصحيحة والاحصاءات الدقيقة، ويزعم ان مسائلَ الأخلاق والسلوك مما يدخل في نطاق العلم التجريبي، مخالفاً بذلك أساطين علماء النفس والأخلاق، ومقلد الشرذمة من الماديين الذين يرحّبون كل ما يصدر عن الانسان من أفكارٍ وارادات وميول الى وظائف فسيولوجيّة(2)، حتى أنّهم ليقولون: (ان المخ غُدَّة لافراز الفِكر، وأنّ الانسانَ ليس الا هذه المجموعة من الأعضاء، والغُدد والدم والأعصاب.. الخ).
ونحن لا ننكر العلم ولا نعاديه بل نؤمن بأنّ العلم اليقينيّ القائم على التجربة لا يمكن ان يتعارض مع الدّين، لأنّ الرُسُلَ –عليهم الصلاة والسلام- لم يجيئوا بما يتعارض مع نظام الكون وطبيعة الوجود، وانما جاءوا بكل ما يُكمل الفطرةَ الانسانية، وليس في الأديان ما يُجافي النواميس الكونية، أو يكابر الوجدان السليم، ولكنّا مع ذلك لن نُخضع الدِّين للعلم كما يريد الشيخ خالد، ولن نُسلِّم للعلم القِياد، بل سيظل الدين أبداً هو رائدنا الى كل حقٍّ وخير، وستظل أعلامه المنصوبة على طول الطريق هي المُرشدةُ لنا في متاهات الحيرة والضلال، وسيظل سلطانه المقدس هو الحاكم في سلوكنا وأخلاقنا، لأنّه شيء قد اختلط بأرواحنا وقلوبنا، بل وبلحامنا ودمنا وأعصابنا، فهو لنا كالنور للعين والعافية للمريض، بل هو الحياة، ولا قيمة بعده للحياة.
والآن وقد تشوّقتَ أيها القارئ الى معرفة ما احتواه هذا الكُتيّب مما بعد قحة واجتراء على الدين ودعوةٌ صريحة الى الاباحية والانطلاق، وكان من غير المستطاع في هذه العُجالة ان نضع يدك على كلما فيه من مآخذ وأخطاء فلا أقل من ان نمر بك في عرضٍ سريعٍ على أهمِّ النُّقط التي جاوز فيها المؤلف كل حدٍّ، وخرج على كلِّ مألوفٍ.
يبدأً الشيخ خالد الفصل الأول من كتابه بهذا العنوان: (هنا لا هناك) ويكتب تحت هذا العنوان نقلاً عن بوذا (لستُ أعرفُ شيئاً عن سرِّ الاله، ولكن أعرفُ شيئاً عن بؤسِ الانسان)، ولعلّ في وضع هذا النص تحت هذا العنوان ما يُفصحُ غايةَ الافصاحِ عن الفلسفة الجديدة للشيخ خالد وهي: أنها فلسفة انسانية أرضيّة لا تؤمن بالميتافيزقا(3) ولا بشيء من أمور الغيب، بل لا تؤمن الا بالواقع المحسوس، وسيأتي في خلال هذا الكتاب ما يزيد هذا المعنى بياناً.
ان الشيخ خالد يَعُدُّ كل ما تحدَّثّت عنه الأديان من شؤون الغيب أساطير وخُرافاتٍ لا مجال لها في عصور النور والعلم، ولابد ان تأخُذَ سبيلها يوماً الى الانقراض كما انقرضت أنواع الحيوان المختلفة عن مُجاراةِ ركبِ الوجود.ان كل ما ليس بمحسوس هو في نظر الشيخ خالد غير موجود، فهو لا يؤمن بالشيطان ولا بالملائكة ولا بغير ذلك مما لم يقع تحت بصره، ولكنّه لا يؤمن بهذا الانسان الذي يعرف من بؤسه وشقائه أشياء وأشياء.
ثم يتحدّث الشيخ خالد في هذا الفصل عن خمسِ نقاطٍ:
الأولى بعنوان: (من الغابة الى المدينة).
والثانية بعنوان: (من المحراب إلى التشريح).
والثالثة: (ليس هناك شياطين).
والرابعة: (التديُّن قد يكون انفعالاً مرَضيا).
والخامسة: (هذا هو الانسان).
ولعل في هذه العناوين نفسها ما يكفي لبيان دخيلة الشيخ وما يهدف اليه من نبذِ الموروثات القديمة من الأديان والتقاليد والانتقال من محاريب العبادة الى غرفِ التشريح، حيث يقوم العلماء هناك بالكشف عن ما يثير النَّفْسَ وحل ألغازها واستِنْكاه دخائِلها، وحيث يقومون بتشخيص أمراضها ورذائلها، ولكنّا مع ذلك لن نكتفي بالعناوين بل سنتابع الرحلة عبر هذا الكتاب، لنقفك أيها القارئ منه على العجب العُجاب.
ففي النقطة الأولى يبدأ الشيخ خالد رحلةً تاريخيةً ينتهي فيها الى سُقراط العظيم، ذلك الرجل الذي أنزل الفلسفة من السماء الى الأرض، وجعل شِعارَ فلسفته: (اعرف نفسك بنفسك)، وبذلك استطاع ان ينقلنا من حياة الغابة الموحشة ويقف بنا على أبواب مدينة السعادة بعد ان فضَّ مغاليقها، ولكن يا ترى: هل سنظل هكذا على باب هذا الفردوس البهيج، دون ان نحظى باقتحامه والتنعُّمِ فيه؟أنّ الطبيعة الرحيمة بالانسانية وهبتها رجلا آخر ليس عظيماً فحسب، ولكنّه في نظر الشيخ خالد عظيمٌ جدّ عظيم، ذلك الرجل هو (أبيقور) فيلسوف اللذَّة المشهور.
ولكن أتدري أيّها القارئ لماذا كان أبيقور في نظر الشيخ خالد عظيما جد عظيم؟ ولماذا كان في نظره رائداً من روّاد الانسانية العظام؟
لأنّه آمن بأنَّ الغاية الأخلاقية هي اللذّة والبعد عن الألم، وأنَّ هذه الغاية هي التي يجب ان نُصدِرُ عنها في كلِّ سلوكنا وأعمالنا، وأنَّه لا معنى للسعادة ألا نعيش في لذائذ موصولة لا يتخللها شيء من الآلام، ولمّا وَجد أبيقور ان تحقيق هذه الغاية مستحيلٌ لأنَّ الناسَ يخافون الآلهةَ ويخافون الموتَ، وبذلك اقتحم أبيقور كما يقول الشيخ خالد: (المدينة) بعد ان تركنا سقراط على بابها، ولقد كنّا نذعر من دخولها، ونخاف فأزاحَ الرجلُ العظيم المخاوفَ من طريقنا، ودخل أمامنا مُلوِّحاً من بعيد بيدهِ البارّة ان ادخلوا، فهل دخلنا؟(4).
هكذا يتحدَّث الشيخ خالد عن أبيقور اللَّذي المُلحِد، وهكذا يضفي عليه من ألوان العظمة والمجد ما يضمن بمعاشرهُ على رسولٍ من عند الله، ويتّخذ من فلسفته التي تقوم على هدمِ الأديان وانكار الفضائل شعاراً له في الحياة.
وصلنا في المقال السابق مع الشيخ خالد في رحلته الى أبيقور، ذلك الرائد العظيم الذي فتح للانسانية باب المدينة السعيدة الفاضلة، وأخذ على حدِّ تعبير الشيخ خالد يلوح لهم من بعيد بيده البارَّة أن: ادخلوا.
ولكن الشيخ خالد يأسفُ أشدَّ الأسف لأنّ تعاليم أبيقور اللَّذِيَية الالحادية لم يُكتب لها ان تتعمَّق في ضمير البشرية، ولم يكتب لتيارها الدافق ان يستمر في سيرِهِ، ولكنَّه أُصيب بجُرعةٍ وانتكاس بسبب (أن فتىً شاحبَ البَدَن مشرقَ النَّفْس قدِمَ الى الدنيا في زيارةٍ قصيرة سريعة).
ولا تعجب أيها القارئ اذا علمت ان الشيخ خالداً يريد بهذا الفتى عيسى روح الله وكلمته التي ألقاها الى مريم، ويُعبِّرُ عنه بهذا الكلمات التي تحمل معاني السُّخرية والاشفاق، ولم يرضَ حتى ان ينعته بما نُعت به من قِبَل أبيقور وسقراط، وليس ذلك فحسب، بل يحرص الشيخ خالد على ان يدلَّنا على مقدار الفرق الهائل بين وصايا أبيقور العاقلة الرشيدة وبين تعاليم الأنبياء الخيالية الحالمة فيقول:
(لقد وقف المسيح –عليه السلام- ينادي الناسَ قائلاً: «لا تُقاوِموا الشرَّ»، وبعد قليل سيجيء محمد –عليه السلام- ليقول: «تخلّقوا بأخلاق الله» وكلتا الدعوتين نبيلة وفاضلة، ولكن هل يستطاع تنفيذها؟ كيف يطالبُ منّا المسيح ألا نُقاوِمَ الشرَّ؟ مع ان الاله نفسه يعجز عن ذلك بدليل فعله في قرى قوم لوط، وكيف يطلب منّا محمد ان نتخلّق بأخلاقِ اللهِ وهو يعلم أنّنا بشرٌ ولسنا ملائكة؟ أين هذه المِثاليَّة المتطرّفة التي دعى اليها هذان الرسولان من واقعيّة أبيقور الواعية الهادفة؟ أليست هي أولى وأحقّ بالاتباع؟)(5).
ثم يتصوّر الشيخ خالد ان العلمَ والدين عَقَدا فيما بينهما اتّفاقيةً على ان يعمل كلٌّ منهما في نطاقِ اختصاصِه، وظَفَرَ العلمُ في هذه الاتفاقية بنصيب الأسد، فهو الذي يضع المفاهيم الجديدة للأخلاق، والذي يشخّص الرذائل تشخيصاً مستمدّاً من طبيعة الانسان، وهو الذي يعالجها بوسائلِهِ الخاصة، ولا بأس ان يستعين العلمُ بالدين اذا رأى ذلك، ولكن الكلمة الأولى والأخيرة في كل ما يتعلّق بسلوكنا الأخلاقي هي للعلم وحده، أما الدين فلا ينبغي ان يتطلّع الى شيءٍ من ذلك لأنّه يقوم في نظرِ الشيخ خالد: خرافتين.
الخرافة الأولى: هي ان أعمالنا التي تصدر منّا تابعة لمشيئة الله وقَدَرِهِ، وليست صادرة عن ارادتنا الحُرَّة.
الخرافة الثانية: هي وجود الشياطين التي توسوس لنا وتجتهد في اغوائنا.
هكذا يقول الشيخ خالد، فهو يُنكر صلاحيةَ الدينِ لأن يكون مصدراً للسلوكِ أو مُشْرِفاً على الأخلاقِ مادام يؤمن بأنَّ مشيئة الله عامةٌ تتناول أعمالَنا، ومادام يؤمن بوجودِ شياطين تؤزّنا وتنحرفُ بنا عن الغاية.
وهكذا يعدُّ الشيخُ خالد الايمانَ بالقدرِ وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن خُرافةً من الخرافات التي أُقيمت عليها الأديان، ويدّعي ان ذلك يُنافي مسؤوليةَ العبد عن أعمالِه مادام ليس حُرّاً، وليس في الايمان بالقدر ما ينافي المسؤولية الأخلاقية، كما قال المعتزلةُ قديماً وقلّدهم فيه الشيخ خالد، فانّ القدرَ ليس الا جملةَالأسباب والمُسبِّبات التي ربط اللهُ بينها وجعل بعضها يؤدّي الى بعضٍ، وجعل بعضها يدفع بعضاً.
فنحن ندفعُ الجوعَ بالأكلِ، والمرضَ بالدواءِ، ونحن نقطعُ بالسكينِ ونقتُلُ بالسيوفِ ونُحرق بالنارِ، والكلُّ مِن قَدَرِ اللهِ، وكذلك نحن نعملُ بارادتِنا، وارادتُنا ليست الا حلقات في تلك السلسلةِ الطويلةِ التي هي القَدَر، فنحن نختارُ أعمالَنا ونعملُها بقُدرتِنا، ولا نكون في ذلك كلِّه خارجينَ عن قَدَر اللهِ، ولا نكون كذلك مجبورين على شيءٍ منها جبراً، من شأنه ان ينفي عنَّا المسؤولية، ولذلك أضاف القرآنُ الفِعلَ للعبدِ وأَثْبَتَ للعبدِ مشيئةً في فعلِهِ كما قال تعالى: (فمَن شاءَ فليؤمِن ومن شاءَ فلْيَكفُر)، وقال: (لِمَن شاءَ منكم ان يستقيم).
فنحن نؤمن بالقدر ولكنّنا لا نحْتَجُّ به ولا نتَّخذَهُ ذَريعةً لابطالِ المسؤوليةِ وهدمِ التكاليفِ كما يُتوهَّم، وأما وجودُ الشيطانِ للاغواءِ والتزيينِ فهو شأن من شؤون الغيبِ، يجب ان نؤمنَ به وان لم نرَه، كما نؤمن بوجودِ اللهِ وملائكتِهِ ونحن لم نرَ اللهَ ولا ملائكتَهُ، فليس كلُّ ما يجبُ الايمانُ به يجبُ ان يكونَ مرئيّاً محسوساً، ولكن الشيخَ خالد العريق في الماديةِ الواقعيةِ بعد فكرة الشيطان خرافة من مخالفات القرون المنقرضة لا يجمل بالانسانية المحتضرة ان تبقى عليها ويحمد الله أنها انقرضت من ثُلثي العالم المتحضر.
ثم يمعن الشيخ خالد في الازدراء بالدين فيقول ان التديّنَ مَظْهَرٌ كاذبٌ، وأنه كثيراً ما يكون نفاقاً خادِعاً، وأنّه عائقٌ بعِتاقِ السلوكِ، ويقِفُ نموُّهُ وتهذيبُه، وأنه غالباً ما ينشأ عن انفعالاتٍ مَرَضيّة، وأن الانسانَ قد يصلِّي ويصومُ ويؤدِّي الواجبات الدينية وهو مشحونُ النَّفْسِ بالعُقَدِ المكبوتةِ، بل وهو مُجرَّدْ من كلِّ خُلُقٍ كريمٍ، ونحن لا ننفي ان بعضَ الناس ممن لم تخالط بشاشةُ الايمانِ قلوبَهم لا ينتفعون بما يقومونَ به من أعمالٍ صالحة، لأنها ليست صادرةٌ عن ارادةٍ خيِّرةٍ وايمانٍ صحيح، فهي لا تُثمر ثمرتها المرجوَّة في تقويمِ الأخلاق، ولكنَّ ذلك ليس لنقصٍ في الدين نفسه، ولكنَّه انحرافٌ في هذه النفوسِ يجعلها غير قابلةٍ لتأثيرِ الدين.
وهل اذا كان الأعمى لا يبصرُ ضوءَ الشمسِ تكون شمسُ غيرَ طالعةٍ؟
وهل اذا كان المحمومُ يُشعِرُ بطعم الماءِ الزُلال مُرّاً في حلْقِهِ يكون ذلك في الواقع؟
لقد شهدت التجربة وسجل التاريخ أنه ليس كالدين وسيلة لتهذيب الأخلاق وتصحيح السلوك، فقد استطاع هذا الدين قبل ان يعرفَ الناسُ قواعدَ العلمِ، وقبل ان يولدَ الشيخُ خالد بمَثابةِ السنين ان يوجد جيلاً من الناسِ سيظلُّ مفْخَرَةَ البشريةِ ومعجزةَ الدَّهرِ في قوَّةِ أخلاقِهِ وسموِّ آدابِهِ، فيحين عَجَزَ هذا العلمُ الذي افتُتِنَ به الشيخُ خالد في ان يوفِّرَ لهذه البشرية المألومة ما تنشده من راحة وطمأنينة، ولم يستطع كذلك ان يقوِّم هذه المجتمعات التي أخذت بأساليبِه وطبَّقت نظرياتَه، والشيخ خالد نفسه يعترف بذلك، فهو ينقل عن سيدةٍ أمريكيةٍ ماتُعانيهِ الولاياتُ المتحدة من فوضى جنسيَّةٍ مُبيدةٍ، وقف العلم حيالها عاجزاً مبهوراً.
وان تعجّب فعجباً لهذا التناقض الذي يقع فيه هذا المؤلِّفُ، فبينما ينكر خضوع السلوك الانساني لمشيئة الله لأنَّ ذلك يُفضي الى الجّبْرِ ونفي المسؤولية، يرى أنَّنا خاضعون في هذا السلوك الى تركيبنا الجسمي، ويقول ان أجهزة الجسم لها على الأخلاق تأثيرٌ كبيرٌ، حتى ان طول القامة وقصرها لمما يؤثّر في تفكيرنا وسلوكنا، وأنَّ العلماء ليَرَوْنَ في اكتشاف الغدّة الدِّرقية انقلاباً هائلاً في دنيا السلوكِ الانسانيِّ، وبذلك يقعُ الشيخُ في حمأةِ الجبر وهو لا يشعر، اذ مادام السلوك نتيجةً حتميَّةً من البيئةِ والتربيةِ وأجهزةِ الجسم المختلفة: فلماذا لا يُلامُ الانسان على خطئِه وانحرافه؟
ولكنّ الكاتب العبقري يريد ان يُحرِّرنا من الخضوعِ لارادةِ الله، ليجعلنا خاضعين لهذه الغرائزَ والانفعالات المضطرمة بين جوانحنا، وهو يهدف من ذلك الى نفيِ المسؤولية عن المجرمين والسفّاكين، بل هو لا يرى نعتهم بهذه الألقاب فلَيسوا في نظرِه مجرمين ولا سفّاكين، ولكنهم مرضى، ومن حقِّهم علينا ان نرفق بهم، وأن لا نؤاخِذَ أحداً منهم بجُرمِهِ، أو نوقِعَ عليه ما يستحقُّه من جزاءٍ رادعٍ لقاءَ ما اقترف من اثمٍ أو خيانةٍ، بل الواجب ان نفتح لهم المصحّات النفسيّة لنعالجهم فيها.
واذا فليفعل من شاء ما شاء بلا اثمٍ ولا حرج، ولنُلغِ قوانين الدولة كلّها ولتبطل شريعة الأرض والسماء، فقد اكتشف الشيخ خالد بلسم الشفاء.

الهوامش:
1 - هو خالد محمد خالد ثابت، كاتب ومفكّر مصري أزهريّ، كانت له علاقة مع جماعة الاخوان المسلمين وبزعيمها حسن البنا، فاعتنق فكرهم دون الالتحاق بهم بشكل رسمي، ولما تخرج من الأزهر سلك طريق العلمنة ودخل من أوسع أبوابها، فكتب كتابه: «من هنا نبدأ» ونادى فيه بفصل الدين عن الدولة، ولم يُكتب لكتابه القبول، فلجأ لحيلة خبيثة، فكتب كتاباً ردّ فيه على نفسه فاشتهر الردُّ، وبدأ مشايخ الأزهر وغيرهم يرودّون عليه، ولازال الأستاذ خالد يكتب في الصحف ويؤلّف الكتب الناصرة للعلمنة والالحاد حتى لفت انتباه الغرب، فصاروا يروّجون كتبه ويدعمونها، فلمّا رأى نشاطهم وحماسهم في ابراز كتبه أيقن ان القوم قد استغلّوا كتبه كسلاح لضرب أُمّته، فكتب كتابه: «الدولة في الاسلام» كردّة فعل، وأظهر تراجعه عن فكرة فصل الدين عن الدولة.
2 - الفسيولوجيا: علم وظائف الأعضاء.
3 - الميتافيزيقا: علم ما وراء الطبيعة.
4 - هذا أو الطوفان صـ 13.
5 - هذا أو الطوفان صـ 15.
أخبار ذات صلة dot4line
التعليقات الأخيرة
dot4line
 

!function(d, s, id) { var js, fjs = d.getElementsByTagName(s)[0], p = /^http:/.test(d.location) ? 'http' : 'https'; if (!d.getElementById(id)) { js = d.createElement(s); js.id = id; js.src = p + "://platform.twitter.com/widgets.js"; fjs.parentNode.insertBefore(js, fjs); } } (document, "script", "twitter-wjs");
351.0059
 
 
 
إعلن معنا
موقع الوطن الإلكترونية – حقوق الطبع والنشر محفوظة
 
Top