مقالات  
نسخ الرابط
 
   
   
 
  A A A A A
X
dot4line

سفراء القيم في ساعة العسر (2)

محمد تهامي
2025/05/29   02:29 م

شكرا لتصويت

التقيم التقيم الحالي 5/0
writer image



ليس من السهل أن تُصدر قرارًا مؤلمًا، ولا من الهيّن أن تُبلّغ مئات الموظفين بأن يومهم الأخير قد اقترب، خاصة حين لا يكون الخطأ منهم، ولا السبب في يدك. لكنّ القادة الكبار، لا يُعرفون في لحظة النصر، بل في لحظة الوداع.
في قلب قارة آسيا، وفي إحدى المؤسسات الخيرية الرائدة، كان يعمل 1735 موظفًا من 17 جنسية مختلفة، كلوحة فسيفساء تنبض بالتنوّع وتتماسك بالمهنية. لكنّ القدر لا يستأذن، والسياسة لا تهتم أحيانًا بما يخلفه القرار من وجع. إذ صدر ــ لأسباب خارجة عن إرادة المؤسسة ــ قرارٌ حكومي يقضي بإنهاء خدمات ثلاث جنسيات كاملة، بلغ عددهم 134 موظفًا، كلٌّ منهم يحمل أسرة، والتزامات، وقلبًا معلّقًا براتب آخر الشهر. الحدث في ظاهره كارثة، لكنه في باطنه امتحان قيمي نادر. فماذا فعلت الإدارة؟ هل اكتفت بإرسال خطابات إنهاء الخدمة؟ هل أحالتهم إلى مصيرهم بلغةٍ قانونية صامتة؟ لا. بل جمعت الإدارة العليا كل الموارد البشرية المعنيين، وعقدت اجتماع أزمة، لم يكن الهدف منه فقط الامتثال للقرار، بل الامتثال للإنسان الذي يقف خلف الرقم. فُتح النقاش بروحٍ من الشفافية، وعُرضت التداعيات، ووضعت القيادة وعدًا مكتوبًا في صدر الاجتماع: “لن يغادر أحد دون أن نمنحه فرصة للكرامة، لا للنجاة فقط.”

أول ما يُذكر لهذا الموقف، أن القيادة أعلنت التزامها الكامل بحقوق الجميع، شهران من الإنذار وفق العقد، وثلاثة أشهر إضافية كمبادرة إنسانية. بل تحملت المؤسسة تذاكر السفر عن الجميع دون تمييز، في وقتٍ كانت فيه كلفة التذكرة الواحدة تتجاوز مئات الدولارات، ومع ذلك لم يُستثنَ أحد. لكن ذلك لم يكن كل شيء. إذ لم تكتفِ المؤسسة بالدفع، بل بحثت عن البدائل. تحركت اتصالاتها الداخلية، وتفعلت علاقاتها الإقليمية، لتُؤمن فرص عمل لـ25 موظفًا في فرع بقطر آخر تابع لها خارج البلاد، و11 آخرين في دولة المقر الرئيس، وآخرين في دول مجاورة ضمن الخليج العربي، وكأنها تقول: “لسنا نُنهي مسيرتكم، بل نعيد رسمها قدر المستطاع.” ولمّا علمت القيادة أن بعض الموظفين أسرع في تسفير عائلته لتقليل التكاليف قبل مغادرة البلاد، فتحت لهم المؤسسة أبواب سكن الضيافة مجانًا، بل وتكفلت بطعامهم طوال فترة بقائهم، دون النظر إلى مدة الخدمة أو الرتبة الوظيفية. هذا المشهد، إن رآه الرافعي، لقال قولته الشهيرة: “الإنسان لا يُعرف من لسانه، ولكن من مروءته حين تَضيقُ الأبواب.” وهنا لم تضق الأبواب، بل فُتحت على اتساعها رغم أنف الأزمة، لأن خلفها كان هناك من يؤمن بأن الكرامة لا تُقاس بالراتب، بل بكيفية الرحيل. أما المنفلوطي، والذي طالما نادى بتهذيب الروح قبل تهذيب السلوك، فقد كتب يومًا: “إذا عُذّب الجسد، وكان في النفس جمالٌ، فالناس يُعذَرون. أما إن عُذّبت النفس، فلا طب لها سوى العدل والرحمة.”
وقد كان هذا القرار ــ بما فيه من إنصاف ورحمة وتدبير ــ دواءً لقلوب كادت تُكسر، وجبرانًا لما لا تجبره قوانين العمل. القيادة القيمية هنا لم تنتصر بالكلام، بل بالأفعال. أعادت تعريف “الفصل” من كونه جرحًا إلى كونه معبرًا إنسانيًا. أعادت تعريف “الموظف” من كونه بندًا في جدول الرواتب إلى كونه شريكًا في المعاناة. بل إنها رفعت عن كاهل الجنسيات الأخرى قلق الامتيازات، حين تعاملت معهم بعدلٍ مطلق، لا فضل فيه للغة أو لون. لقد تعلّمت المؤسسات الكبرى كيف تدير المال، وتُحسن العقود، وتُشيد المباني. لكن قليل منها من تعلّم فن المغادرة النبيلة. وهذا ما صنعته هذه المؤسسة. إذ أثبتت أن أصعب ما في الإدارة ليس أن توظف، بل أن تودّع دون أن تجرح. إن القيم لا تُختبر في طابور الترقيات، بل في لحظة الإقالة، والإحسان لا يُقاس بفرحة البدايات، بل بنُبل النهايات. ومن أراد أن يعرف معنى “سفراء القيم”، فليتأمل هذا المشهد: مؤسسة كاملة، في ساعة عسر، لم تختر أن تكون قانونًا، بل قلبًا، ولم تختر أن تحمي سمعتها، بل أن تحمي كرامة موظفيها
وهكذا، حين تعذّر البقاء، لم تتخلَّ المؤسسة عن أبنائها، بل ودّعتهم بكرامة تعادل الوفاء، بل تفوقه. غير أن للمواقف العظيمة أزمنة أشد. فماذا تفعل مؤسسة خيرية، حين تُحتل بلادها؟
أخبار ذات صلة dot4line
التعليقات الأخيرة
dot4line
 

!function(d, s, id) { var js, fjs = d.getElementsByTagName(s)[0], p = /^http:/.test(d.location) ? 'http' : 'https'; if (!d.getElementById(id)) { js = d.createElement(s); js.id = id; js.src = p + "://platform.twitter.com/widgets.js"; fjs.parentNode.insertBefore(js, fjs); } } (document, "script", "twitter-wjs");
339.0025
 
 
 
إعلن معنا
موقع الوطن الإلكترونية – حقوق الطبع والنشر محفوظة
 
Top