مقالات  
نسخ الرابط
 
   
   
 
  A A A A A
X
dot4line

"حين تهطل العقود من السماء"

سفراء القيم في ساعة العسر (1/5)

محمد تهامي
2025/05/20   04:41 م

شكرا لتصويت

التقيم التقيم الحالي 0/5
writer image



محمد تهامي
في زمانٍ عزّ فيه الرجاء، وضاق فيه صدر الأرض على من فيها، يخرج الله من رحم الشدّة شهودًا على لطفه، ويُقيم الحجة بحكمته من حيث لا يُحتسب. لا في بطون الكتب وقصص العجائب، بل في وقائع تمشي على الأرض، يعرفها من نزلت عليه، ويوقن بها من شهِدها وهو موقن بأن “من يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب”.

في أحد الأقطار الآسيوية، وعلى بوابة العام الدراسي، أُعلنت فرص واعدة للتدريس في مؤسسة تعليمية كبرى، فتدافع أكثر من مائة شخص من مختلف التخصصات، يحدوهم الأمل، وتحفّهم الحاجة، وتتقدمهم العزيمة. بعضهم باع ذهب زوجته، وآخر اقترض من صديق، وثالث استدان من قريب، لتأمين تذكرة السفر ومصروف شهر أو اثنين، ريثما تُبرم العقود وتبدأ الحياة الجديدة، لكن المشهد الذي استقبلهم عند الوصول كان غير ما حلموا به، ولا ما خُيّل لهم في ليل الترقب والتهيؤ. إذ فوجئ الجميع باعتذار رسمي من الجهة التعليمية: “التعاقد موقوف هذا العام بسبب مستجدات إدارية خارجة عن إرادتنا”. جُمّدت الأرواح، وسقط في الأيدي، وتحوّلت ساحة الهيئة إلى حلبة تساؤلات وضياع. هنا، وفي ذروة الأزمة، انبرى أحد شخصيات الجالية ممن وُهِبوا بسطة في الإيمان والحكمة، لا ليندب، بل ليُبادر. دعا الجمع إلى أن نلجأ لا إلى السفارة، ولا إلى المدير العام، بل إلى الله أولاً. ليس في خطبة أو تظاهر، بل في أمسية ربانية تُستعاد فيها صِلة السماء بالأرض. في مسجد الهيئة، اجتمعوا ليلًا، وجلّهم بين خوف ودهشة، تتخللهم ومضات رجاء لم تنطفئ. بدأت الأمسية بذكر وتسبيح، ثم دعاء وقيام، ثم تهجد وتبتل، حتى خُتم القرآن بصوتٍ خاشع. ووزّعت دفاتر صغيرة، كُتب عليها: “أجندة المناجاة”، فيها تدوَّن آيات الاستغفار، وأدعية الاستغاثة، وآيات الرجاء، وكأنها خارطة طريق تُحمَل في الجيب قبل القلب. امتدت الأمسية حتى صلاة الضحى، وأرواح الحاضرين تتطهر، وصدورهم تُغسل بنور القرب.

وفي صباح اليوم التالي، وكأنّ البركة سبقتهم إلى أبواب الأمل، دخلت اللجنة إلى مقر الهيئة ، لتُفاجأ بما لم يكن في الحسبان: العقود جاهزة، وبتأشيرات خارجية لجميع المتقدمين، دون استثناء. بل إن المسؤول الإداري قال: “لقد استُدعيتُ فجأة مساء أمس لأُنجز كل شيء، وكأن قوة ما تدفعني دون أن أدري لماذا!”. إنها القدرة حين تُنزِل اللطف في لحظة ضيق، والرحمة حين تتجلى على هيئة قرار، لكن الشخصية ذاتها، التي بادرت بالمناجاة في الشدة، لم تكتفِ بالفرح. فجمع المتقدمين في الليلة التالية نفسها، وفي نفس المسجد، لا لطلب جديد، بل لشكر عظيم. فكانت الليلة الثانية مرآةً لما قبلها، بنفس الفقرات والروح، لكن هذه المرة شُكْرًا لا طلبًا، فرحًا لا فزعًا.

وفي خضم هذه القصة، لا يسعنا إلا أن نستعيد حكمة الرافعي حين قال: “ليست العبادة أن تصلي وتصوم، بل أن تثق أن الله يسمعك حين تنكسر، ويجيبك حين تُناجيه.” وهكذا فعلوا. لم يكن بينهم فقيه ولا مفسّر، لكنهم صدّقوا أن بين الأرض والسماء جسرًا لا يُقطع إن امتدّ بالدعاء، ولا يُردّ إن صُقل بالصدق. أما العقاد، الذي جعل من الإيمان وقودًا للعقل، لربما لو سمع بالقصة لقال كلمته المشهورة: “ليس الإيمان أن تُصدّق ما لا يُرى، بل أن تُبصر في الظلمة طريقًا، وتؤمن أن الشمس في جانبٍ ما من العالم.” وهؤلاء لم يُبصروا الشمس، لكنهم وثقوا بأنها ستطلع، فوقّعوا على الأمل قبل أن تُوقَّع العقود. لقد تجلت في هذه الأزمة ثلاث قيم كبرى: الإيمان الفاعل، لا ذلك الذي يلوكه اللسان، بل الذي يصوغ المواقف، القيادة القيمية، حيث بادر الإنسان لا بسلطة المنصب، بل بسلطة الإيمان، الامتنان المؤسسي، حين لا تُنسى لحظة العسر بعد الفرج، بل تُخلَّد في جماعة الشاكرين.

وليست هذه رواية للتأريخ، بل شهادة للتأمل. لأننا كثيرًا ما نُحسن التوثيق لأزمات المال، والإجراءات، والعقود، لكن ننسى أن نُدوِّن سيرة الرجوع إلى الله، وكأنها ليست جزءًا من الحل، بل جزءًا من العاطفة. بينما الحقيقة تقول: السموات تتحرك، إذا تحرك الصدق في القلب.
ولئن كانت المؤسسات اليوم تتفاخر بخطط الطوارئ، وخبراء الإدارة، وحلول الأزمات، فإن هذه القصة تؤكد أن أعظم خطط الطوارئ تبدأ بركعةٍ في جوف الليل، وأن أعظم قيادة، هي التي تُحسن توجيه الناس إلى مصدر النور لا إلى غرف الانتظار.
لقد أراد الله أن يجعل من هذه المحنة منحة قِيَمية. وأن يخرج من بين عرق الحاجة، وقلق الديون، من يكتب اسمه في سجل “سفراء القيم”. لا لأنه علّم أو درّس، بل لأنه قاد أرواحًا نحو الله، في ساعةٍ ظنّها الجميع مظلمة، فإذا بها فجْرٌ ينتظر من يوقظه.

وفي الختام، أستعيد قول الراشد حين كتب: “ما دام في الأمة رجالٌ إذا فزع الناس توجهوا إلى الله، فالأمة بخير.” وهؤلاء فزعوا، فلم يذهبوا إلى شكوى، بل إلى سجدة، فكان أن كُتبت لهم عقود الأرض من بوابة السماء. وهكذا، لم تكن الأزمة سوى باب للرجوع، ولم يكن الرجوع سوى جسر للفتح، ولم يكن الفتح سوى شهادة بأن في الناس بقايا من نور، إن وجدوا من يدلهم عليه، ساروا نحوه بلا تردد. ومن رحم هذا الموقف، أدركنا أن الأزمة لا تختار زمانًا، ولا تستأذن مكانًا، لكنها تكشف معادن الرجال. فإن كانت تلك الواقعة قد كشفت عن رجلٍ واحدٍ أيقظ مئة، فإن المشهد التالي يكشف عن مؤسسة بأكملها اختارت أن تكون إنسانًا لا آلة، قلبًا لا أوراقًا. فإلى هناك، حيث 1735 موظفًا، وقرار إداري قد يُفسَّر في الظاهر قسوة، لكنه في العمق كان درسًا في القيم
أخبار ذات صلة dot4line
التعليقات الأخيرة
dot4line
 

!function(d, s, id) { var js, fjs = d.getElementsByTagName(s)[0], p = /^http:/.test(d.location) ? 'http' : 'https'; if (!d.getElementById(id)) { js = d.createElement(s); js.id = id; js.src = p + "://platform.twitter.com/widgets.js"; fjs.parentNode.insertBefore(js, fjs); } } (document, "script", "twitter-wjs");
281.0118
 
 
 
إعلن معنا
موقع الوطن الإلكترونية – حقوق الطبع والنشر محفوظة
 
Top