مقالات  
نسخ الرابط
 
   
   
 
  A A A A A
X
dot4line

ميلاد أعظم ثورة في تاريخ الإدارة

محمد تهامي
2025/05/14   03:04 م

شكرا لتصويت

التقيم التقيم الحالي 5/0
writer image



في لحظة ما من التاريخ الإداري، وبينما كانت العقول مُنشغلة بتحديث الهياكل، وتحسين مؤشرات الأداء، وابتكار استراتيجيات النمو، ظل شيء واحد غائبًا عن طاولة الإدارة: القيم.

لم يكن الغياب بسبب الجهل بها، بل بسبب ترفّعها عن مقاييس الإدارة، أو لعلّه بسبب غفلة الإدارة عن كونها قابلة لأن تُدار. ظنّ المفكّرون أن القيم لا تُقاس، وأن المبادئ لا تخضع للأنظمة. ظلّت “النزاهة” شعارًا، و”الشفافية” لافتة، و”العدالة” أمنية، لكنها لم تدخل يومًا دفتر الميزانية، ولم تُكتب في خانة المخرجات، ولم تُراجَع في تقارير التقييم.

ولكن من قال إن القيم خلقت لتعظ فقط؟ من قال إن الأخلاق لا تُدار؟ بل من قال إن المؤسسة تنمو وهي خالية من الروح؟
هنا فقط، يبدأ السرد الحقيقي.

نشأ المشروع لا كتطوير إداري، بل كدعوة لثورة معرفية تنسف ثنائية الإدارة والقيم، وتعيد بناء الهيكل الإداري على أسس إنسانية لا تقل صرامة عن قوانين المحاسبة. لقد آن للأخلاق أن تتخلى عن ضعفها الشعاراتي، وأن تدخل بكل وقارها إلى صالة الاجتماعات، لا كزينة بل كنظام.
حين خرج إلى النور مشروع “أيزو القيم – ISO-VMS”، لم يكن مجرد دليل إجرائي، بل كان صدمة فكرية في عمق الإدارة الحديثة. لقد كسر الاحتكار الصامت الذي مارسته المؤشرات الرقمية على عالم الأداء، وأعلن للعالم أن ما لا يُقاس لا يعني بالضرورة أنه غير موجود، بل قد يعني أن المعيار نفسه أعمى.

يقول بيتر درَكر، عرّاب الإدارة الحديثة: “الثقافة تأكل الاستراتيجية على الفطور.” لكنه لم يقل كيف تُدار الثقافة، ولا كيف تُحوّل القيم التي تشكّلها إلى نموذج إداري. ولعلّ درَكر نفسه، في غمرة انشغاله بالمؤشرات والقيادة والابتكار، لم يتخيّل أن يأتي زمان تُبنى فيه الإدارة من الأساس على منظومة قيم قابلة للتقييم والاعتماد.

الرافعي، في خواطره، كان يقول: “الحقائق التي لا تتحول إلى عمل، تتحوّل إلى خرافة.” وهذا بالضبط ما حدث للقيم في مؤسساتنا؛ تحولت إلى خرافة إدارية. نردّدها كالأناشيد، ونُعلّقها كالأعلام، لكن لا أحد يسأل: من يقيسها؟ من يُراجعها؟ من يُحاسب من فرّط بها؟
هذا المشروع جاء ليكسر حاجز الوهم، ويعيد القيم إلى موقعها الطبيعي: صُلب القرار المؤسسي.

لقد كانت النُظُم الإدارية لعقود طويلة تضع القيم في مقدمة الدساتير، ثم تنصرف عنها تمامًا في التطبيق. تُعلَن النزاهة في الرؤية، ثم تُنسى في ممارسات المشتريات. تُرفَع راية العدالة في اللوائح، ثم تُسقَط عند أول تعيين غير مستحق. فجاء “أيزو القيم” لا ليُضيف وثيقة جديدة، بل ليُنشئ نظامًا رقابيًا، ومعيارًا حقيقيًا، يجعل من القيمة عنصرًا يُحاسَب عليه المدير كما يُحاسَب على العجز المالي.

تخيّل مؤسسة تُراجع أداءها القيمي كل ربع سنة. تُصدر تقارير الشفافية كما تُصدر ميزانية الأرباح. تُكافئ الموظف على التزامه بالمبدأ كما تكافئه على كفاءته. عندها فقط، تتساوى الروح مع الجسد، ويصبح “الضمير المؤسسي” واقعًا لا استعارة.

وليس هذا محض خيال. فالنظام الذي بُني، قدّم تعريفًا تشغيليًا لكل قيمة، وحدّد لها مؤشرات أداء نوعية، وأدوات متابعة وتقييم، ومصفوفة مسؤوليات، ومراحل تطبيق. بل بلغ في دقته أن جعل للانحراف القيمي درجات، وللتحسّن القيمي خططًا، وللتميّز القيمي شهادات اعتماد.

يُحكى أن سقراط حين سُئل: من القوي؟ قال: من ملك نفسه عند الغضب. لكن سقراط لم يخبرنا كيف يمكن لمؤسسة كاملة أن تملك نفسها عند الغضب، أو الطمع، أو الغش. أما هذا النظام، فقد ابتكر آلية لقياس “ضبط النفس المؤسسي”، وابتكر مؤشرات تُرصد فيها لحظات الإغراء الإداري، وتُسجّل فيها قرارات المؤسسة في مواجهة الضغوط الأخلاقية.

ولعلّ أجمل ما في هذا المشروع أنه لا يصطدم بالإدارة الحديثة، بل يُكمّلها ويُعلّيها. فهو لا يُعارض معايير الجودة، بل يُضيف إليها معيارًا إنسانيًا هو الذي يعطي المعايير الأخرى معناها. فالجودة بلا صدق، كفاءة بلا نزاهة، تطوّر بلا عدالة — كلها عورات مؤسسية مستورة بالأرقام.

العقاد، في إحدى مقالاته، قال: “إذا كانت الحياة حربًا بين الحق والباطل، فإن الإنسان الحق لا يقبل أن يكون محايدًا.” وهذا النظام بالذات، لم يكن محايدًا. لم يكن مبادرة ناعمة، بل إعلان مواجهة مع أنظمة تسوّي بين المبدأ والمصلحة. لقد وُلد ليقول: الإدارة ليست علمَ أدوات فقط، بل علمُ القيم.

وحين ننظر إلى المؤسسات التي تنهار رغم براعتها، سنجد دائمًا فجوة قِيم. شركة عظيمة تقنيًا تسقط بسبب فساد داخلي. منظمة تنموية تنهار بسبب كذب في التقارير. بل دولٌ بأكملها تفشل لأن النزاهة لم تُحتسب ضمن معايير التقدم.
أليس غريبًا أن تُقاس التنمية بمؤشرات دخل، ولا تُقاس بمؤشر الكرامة الإنسانية؟
أن تُقاس الحكومة بكفاءة تنفيذ المشاريع، لا بمستوى الصدق في قراراتها؟

“أيزو القيم” هو ما يجعل كل هذا قابلًا للمراجعة. إنه الجسر بين الرؤية الأخلاقية المجردة، وبين الممارسة المؤسسية الملموسة.

وهكذا، ولأول مرة في تاريخ الفكر الإداري، لم تعد القيم عُنوانًا في وثيقة، بل أصبحت نظامًا يُطبَّق ويُراقَب ويُطوَّر. لقد قفز المشروع فوق الهوّة التي طالما فصلت بين “ما نؤمن به” و”ما نُديره”، وفتح بابًا جديدًا في علم الإدارة: بابًا تُفتح فيه دفاتر القيم كما تُفتح دفاتر الحسابات، ويُراجع فيه سلوك المؤسسة كما يُراجع أداؤها المالي.
ولعلّ التاريخ، حين يروي قصة هذا المشروع، لن يضعه بين مبادرات التحسين، بل بين تحوّلات الحضارة
أخبار ذات صلة dot4line
التعليقات الأخيرة
dot4line
 

!function(d, s, id) { var js, fjs = d.getElementsByTagName(s)[0], p = /^http:/.test(d.location) ? 'http' : 'https'; if (!d.getElementById(id)) { js = d.createElement(s); js.id = id; js.src = p + "://platform.twitter.com/widgets.js"; fjs.parentNode.insertBefore(js, fjs); } } (document, "script", "twitter-wjs");
342.9957
 
 
 
إعلن معنا
موقع الوطن الإلكترونية – حقوق الطبع والنشر محفوظة
 
Top