مقالات  
نسخ الرابط
 
   
   
 
  A A A A A
X
dot4line

شخصيات أدبية (2-1)

فاضل خلف
2014/01/09   10:36 م

شكرا لتصويت

التقيم التقيم الحالي 0/5
writer image



يشهد الواقع الثقافي في الفترة الأخيرة حركة ازدهار في نشر الكتاب الثقافي بصفة عامة، على الرغم من بعض الصعوبات التي أصبحت تحول الآن دون ان نشعر، بالسوق الرائج للكتاب، فقد يتخيل البعض ان المكتبة تحتل الاهتمام الأخير في عقل عامة الناس، وما معارض الكتب الا مناسبات تجذب القارئ ليس الى الكتاب بقدر ما هي فرصة أخرى للبحث عن أقراص الكمبيوتر التي تحتوي على الموسوعات والمعلومات العلمية وأيضاً ألعاب الأطفال على الكمبيوتر.
ولا غضاضة في هذا الأمر، فالكتاب سيظل في مكانته العالية ولابد ان يأتي اليه القارئ ليحمله برفق من فوق الأرفف، وينفض عنه الغبار لتضيء صفحاته بنور العلم واشراقات القيم العظيمة، وسيظل الكتاب هو الصديق الذي لا يستطيع ان يرفض صداقته القارئ المتخصص أو العادي، لأننا في عصر الانفجار المعرفي المتدفق الينا من كل انحاء العالم في لحظة قصيرة جداً.
وسيظل الكتاب كما عبر عنه الشاعر أحمد شوقي:

أنا من بدل بالكتب الصحابا
لم أجد لي وافياً الا الكتابا

وهذا يتطلب من المثقف أو القارئ ان يكون دائماً مستنداً الى خلفية عميقة من الثقافة العامة ثم معرفته في مجال تخصصه حتى يتيح له ذلك قدرة معرفية على مواجهة أحداث العالم، وأن يكون له موقف ازاء القضايا التي نعاصرها، فالمرء يقرأ ليثقف نفسه والثقافة موقف وأخلاق وقيم وسلاح الانسان ضد الغزوات الفكرية والثقافات المضادة التي تحاول ان تقهر طموحاتنا أو تكسر أجنحتنا انطلاقاً الى عصر من التحدي والتحضر والتمدن والتطور والتقدم.
وهذا يقودنا الى نتيجة هامة تؤدي اليها القراءة العميقة، حيث يولد المثقف الثوري الذي لا يحلم بالتغيير بل إنه أداة للتغيير والرفض والتحول، وعبر عنه الدكتور زكي نجيب محمود رحمه الله حين قال: ان القراءة هي مستويات في نهاياتها يولد المثقف الثوري، فالقارئ المتلقي يتحول الى قارئ ايجابي مشارك في الفكر الابداعي ويجادل ويحاور ويناقش من خلال مبادئه وأساليبه وطرائقه الجديدة في التفكير والبحث والمعرفة.
وفي المرحلة النهائية يولد هذا المثقف الثوري الذي يدرك، مُثلاً جديدة للحياة وفق ما أدركه شريطة ان يجئ هذا التغيير في الاتجاه الذي يسير فيه التاريخ، من حيث توسيع الرقعة البشرية، التي تتمتع بها وهو ما كان مقصوراً على القلة من جوانب القوة والحرية والعلم وسائر أوجه الكمال كما ارتسمت في تصور الانسان منذ أقدم العصور.

هكذا يكون الكتاب

قد يلاحظ المثقف المتابع للكتب ان هناك اهتماماً بالشخصيات والأعلام والقادة والعلماء ومشاهير الأدب والفن وأبطال المواقف والبطولات التاريخية وفرسان التاريخ والملوك الشعراء أو الأمراء الشعراء، والشاعرات في الجاهلية والاسلام وغيرها من الكتب التي تهتم بالسيرة وانجازات الأدباء والمفكرين.
وهذه الكتب التي تهتم اهتماماً كبيراً بالشخصية، تبرز النزعة الانسانية والابداعية التي تجسد إنجازات كبيرة لعظماء في مجالات المعرفة والفنون يمكن لنا نحن القراء ان نقتدي بخطى هؤلاء العظماء ونستلهم من حياتهم العبر والعظات، ونتعلم من وجودهم كيف قاوموا الفساد ووقفوا ضد الشر وحاربوا من أجل الحرية والخير والحب والجمال.
ويلجأ الكاتب عادة في هذه النماذج من كتب الشخصيات الى وصف الشخصية من حيث سجاياها التي تتمتع بها، وسماتها الاجتماعية وانجازها الابداعي والعلاقة بين مسيرة حياتها وما أنجزته في مجال المعرفة والعلوم والفنون.ووصف الشخصية ظهر في بداية الأمر في أوربا الغربية خلال القرن السابع عشر، وقد تأثر الأدباء بذلك بما كتبه الشاعر اليوناني ثيوفراستوس في كتابه «الشخصيات «وقد ظلت الكتابة عن الشخصيات سمة هامة في كل الآداب وعلى مر العصور.
ولعل الأدب الاسلامي قد حفل بتصوير الشخصيات العظيمة وأول هذه الشخصيات النبي محمد عليه الصلاة والسلام ولذلك عندما ترجم الأديب أنيس منصور كتاب «العظماء مائة أولهم محمد عليه السلام» انتشر الكتاب ونفد من المكتبات، لأنه يهتم بهذا العنصر الانساني والتراثي في أعماق الشخصية، ومن هنا كانت مسيرة أدب السيرة الذي تطور من عصر الى آخر ليواكب عطاء الأجيال التي منحت بلادها وشعوبها من العلم والمعرفة والنور الذي على هداه سارت المواكب اللاحقة، وترعرعت البذور النابتة وتشكلت الحضارة.
وهناك كتب كثيرة تغمر المكتبات العربية بفن تصوير الشخصية، سواء كانت من مشاهير الأدب أو قادة الفكر أو رواد العلم والمعرفة والفنون، ومن هذه الكتب صدر كتاب علي عبد الفتاح الذي حمل عنوان «شخصيات أدبية».
فماذا قدم المؤلف في هذا الكتاب؟ وماذا كان هدفه الحقيقي؟ وما المنهج النقدي أو الفني الذي وظفه في كتابه سير أكثر من ثلاثمائة شخصية تبدأ من العصر الجاهلي حتى الوقت الحاضر؟.

كتاب «شخصيات أدبية» يقول عنه المؤلف في مقدمة كتابه هذا:

«شخصيات أدبية أحببتها وعشت سنوات كثيرة أتوغل في حياتها، وأحيا بين أنفاسها وفي ظلالها، فالأدب الصادق ينبع من كاتب صادق قادر على التأثير في مشاعرنا بلمسات من السحر والعذوبة، والأدب الجميل ليس أدب التنميق أو الزخرفة اللغوية، وليس أيضاً أدب الديباجة والفلسفة العميقة أو الأفكار الذهنية المجردة، انما الأدب الجميل هو البساطة، الأدب الجميل هو الاحساس والروح واللمسات الانسانية».
واذا كان هذا مدخل الكتاب، فنحن نكتشف المنهج النقدي الذي أقام عليه الكاتب شخصيات هؤلاء، من الأدباء والشعراء والمفكرين والموسيقيين والفنانين التشكيليين حيث يعتمد في المقام الأول، على فنية الكتابة عن الشخصية من خلال استلهام روحها وفنها وسيرتها الذاتية.
فالشخصية المبدعة هي التي تحقق الأثر الأدبي وتقدمه لنا، شخصية خلاقة ومبتكرة ولها طابع خاص يختلف عن سائر عامة الناس أو الشخوص العادية، ولهذه الشخصية المبدعة أسلوب وطريقة فنية، ودرب تتجلى فيه مهارتها للتعبير عن الحياة والوجود ومصير البشر والمحن التي تصادفهم، وكيف يقاومون الصعاب ويتحدون العثرات، وأيضاً كيف ينهزمون ويعبرون جسر الحياة مؤرقين بالهموم ومعذبين بذنوبهم وخطاياهم.
ان أسلوب المبدع يختلف ويتميز ويتسم بالفرادة والجديد، ويمكنه - اذا أمكن بالطبع - ان يسيطر على هذا الأسلوب الفني، ويجعله صوراً أخرى نابضة بالحياة، كلما اكتسب خبرة في معايشة قضايا البشر، وأيضاً نقلة أدبية في تقديم عالم متكامل في تصويره، ومعقد في تركيبه ومتغاير، ومختلف في اتجاهاته، ولكن تسكنه البساطة واللمحات الانسانية.
وهذا المنهج ما يتوق اليه دائماً على عبد الفتاح من حيث التركيز على النزعة الانسانية بما تشمله من قيم الحرية والحب ومناهضة قوى البغي والشر والاستبداد، والتطلع الدائم الى المثل العليا والقيم الأخلاقية.
فالشخصية المبدعة لديه لابد ان تكون مدهشة ومؤثرة وساحرة في ابداعها ومواقفها في الحياة والواقع، وبذلك يخرج الفنان من دائرة المحاكاة والتقليد وينطلق في بحار تغمر العالم بالتميز والابداع، وتكون الشخصية هنا مدعاة للدراسة ومثار بحث ومتابعة من النقاد.
وقد قرأت للدكتور شوقي ضيف الذي يعتبر أبا النقد الحديث، كلمة في شأن كتاباته المثمرة والرائعة عن الشخصيات الأدبية قوله: «تحولت الى المبرزين من شعرائنا وكتابنا الذين شادوا بجهودهم الخصبة صرح أدبنا الشامخ فدرست شخصياتهم الأدبية وأعمالهم الفنية القيمة».
ومن هنا تتبين نظرية البساطة التي يعرض لها الكاتب على عبد الفتاح، في عرضه وتحليله لشخصيات أدبية، فهو حريص أشد الحرص على اختيار مفردات مصقولة، وعبارات شاعرة، ويركز على أساسين: أحدهما كثافة الأفكار وخصبها وعمقها أو طرافتها، والثاني انتقاء المفردات والتراكيب ذات الأثر النفسي والذهني في القارئ، بحيث يكشف لك عن شخصية الأديب أو الشاعر الذي يكتب عنه، ويبتعد الكاتب عن الزخرفة اللغوية كما ذكر في المقدمة ويتجه الى السهل الواضح والطبيعي.
فاذا قرأت عن شخصيات مثل الشنفري وعنترة وطرفة بن العبد والسلكة، وكعب بن مالك والحطيئة وغيرهم من الشعراء الأقدمين انجذبت لتلك البساطة والصور النابضة بالقيم المفعمة بالحيوية فيقول لك عن عنترة في بداية الكلام: «شاعر عاش وحيداً منفرداً بأحزانه لا يعرف له أهل أو أصل أو نسب، مقطوع الجذور، مرفوضاً من القبائل الأخرى، مذموماً يعاني الحرمان، فاتخذ الشعر سلاحاً يغتصب أعراض الناس، ويدفع به عدوان الآخرين عليه ويمضي خنجراً في عنق هذا الواقع الذي رماه في المنفى والتشرد منذ طفولته».
ويحاول الكاتب من خلال هذه الشخصيات، ان تكون البساطة في الأسلوب والتحليل، هما العامل المؤثر في المتلقي فينجذب الى عالم الشخصية، ويعيش معها مأساتها وأحزانها ومواقفها بالبطولية أو الانهزامية، وقد يعجب القارئ ويخفق حباً بهذه الشخصية، وقد يشعر بالتعاطف معها، حين تعاندها الأقدار وتضربها الريح وتعاني التشرد والضياع والموت.
ويمكنك أثناء تصفحك للكتاب ان تشعر أيضاً بأن هناك لغة وجدانية يخاطب بها علي عبد الفتاح قارئه وقد تظهر هنا ذات الكاتب وعاطفته، بحيث يقنعك بدور الشخصية وروعة ابداعها ومواقفها الكبيرة، ونحن نتقبل هذا الموقف من الكاتب لانه قال في بداية الأمر «شخصيات أحببتها» فنحن نرى ونتذوق أدب هذه الشخصيات من خلال احساس الكاتب وتصوره ورؤيته الفنية وقناعته بأن الأدب الحقيقي هو أدب الصدق والبساطة والقيم الكبيرة.
أدب يصاحب المرء في شؤون حياته ويرتبط بالحياة والميلاد والموت والهموم اليومية التي يعاني منها الفرد فالأدب هنا يعلمه كيف يشكل حياته من جديد، وكيف يحولها الى قطعة من الحب والحنان والرقة، ويدخل في علاقات حميمة مع الأشياء والكائنات ليظل يشعر بأنه انسان.


فاضل خلف
التعليقات الأخيرة
dot4line
 

!function(d, s, id) { var js, fjs = d.getElementsByTagName(s)[0], p = /^http:/.test(d.location) ? 'http' : 'https'; if (!d.getElementById(id)) { js = d.createElement(s); js.id = id; js.src = p + "://platform.twitter.com/widgets.js"; fjs.parentNode.insertBefore(js, fjs); } } (document, "script", "twitter-wjs");
1876.9921
 
 
 
إعلن معنا
موقع الوطن الإلكترونية – حقوق الطبع والنشر محفوظة
 
Top