مقالات  
نسخ الرابط
 
   
   
 
  A A A A A
X
dot4line

رحرحة

شيزوفرينيا سنوات مبارك الملعونة

أسامة غريب
2012/01/02   11:01 م

شكرا لتصويت

التقيم التقيم الحالي 0/5
writer image



في كندا وبينما أسير بالسيارة ذات يوم في أحد شوارع مونتريال، سمعت صوت الموتور يزعق قليلاً على نحو تصورت معه ان الشكمان به عيب يحتاج لإصلاح. توجهت الى ورشة لأجل لحام الشكمان المثقوب. بعد ان رفع الفني السيارة أنزلها وأخبرني ان الشكمان سليم، ثم أشار إلي بالذهاب الى ميكانيكي ليرى العيب الحقيقي ويصلحه، ورفض ان يتقاضى أي فلوس لأنه لم يفعل شيئاً.
تذكرت هذه الواقعة عندما انتابني ذات الشك في السيارة وأنا أسير بها بالقاهرة فتوجهت الى ورشة اصلاح شكمانات. نزل الفتى أسفل السيارة لأن تكنولوجيا رفع السيارات مازالت بعيدة ثم خرج من تحتها وملامحه تنطق بالغضب ثم قذفني بالخبر: انت ازاي ماشي بالعربية كده؟.. الشكمان كله خربان ومحتاج يتغير بالكامل!. قلت له: يا رجل لعل به ثقباً بسيطاً يحتاج بنطة لحام وكان الله بالسر العليم. زاد غضبه مني وكأنني قتلت أمه وصاح قائلاً: هل تريد ان تعلمني شغلي؟.. الشكمان كله بايظ. تركته وانصرفت لأنني لم أسترح الى سحنته الغاضبة كما لم أصدق حكاية ان الشكمان كله يحتاج للتغيير، لكنني اضطررت الى ان أدفع له خمسة جنيهات ثمن الكشف!. ذهبت الى آخر بنفس الشارع بالحي السادس بمدينة نصر فتلقاني بالترحاب ثم انطرح أسفل السيارة لثوان وصعد ومعه نفس الوجه الكئيب الذي رأيته منذ قليل لزميله وكرر نفس الاسطوانة عن الشكمان التالف الذي لا يرجى اصلاحه. شعرت بدهشة حقيقية.. هل سيارتي تغضبهم الى هذا الحد؟ هل ما يرونه بالأسفل مأساوي لدرجة ان الابتسامة تختفي وتحل محلها النظرة الحانقة على الرجل القاسي الذي يعامل شكمانه بوحشية ويمرضه الى درجة يستحيل معها اصلاحه؟.. تساءلت بيني وبين نفسي: أوليس خبر تلف الشكمان بالكامل خبراً سعيداً بالنسبة لأي ورشة؟ ألا يعني أنهم سيبيعون لي واحداً جديداً بمئات الجنيهات ويربحون من الشغلانة.. فلماذا الغضب اذن؟. بدا لي الأمر عندئذ ان هذا الغضب مجرد حركة تمثيلية تهدف الى خداعي والزامي موقف الدفاع وموافقتي على شروطهم دون ان أجرؤ حتى على الفصال ومحاولة المساومة في السعر. بادلت الأخ الحانق غضباً بغضب وانصرفت دون ان أعطيه ثمن الكشف الوهمي بعد ان فقدت ثقتي في ورش الشارع كله. أخذت السيارة وتوجهت بها الى ورشة ميكانيكا يملكها أحد أصدقائي وحكيت له الموضوع فرفع السيارة للكشف ثم نفي ان يكون بالشكمان أي عيب ولا حتى مجرد خُرم صغير، وأكد لي ان الموتور سليم والسيارة بحالة جيدة والصوت الذي سمعته موجود في خيالي فقط بسبب الوسوسة.
في طريق العودة كنت سارحاً في ملكوت الله أفكر في عباده المصريين وما حدث لهم.. طبعاً من السهل على أي أحد ان يقول لي أنه كما يوجد الصنايعي فاقد الضمير يوجد صنايعية لا يغشون ولا يسرقون.. هذا الكلام سهل ومريح لكنه لا يقنعني ولا يقدم اجابات للأسئلة التي تنهشني عن الشرف والضمير واتقان العمل. لقد كان بامكان كلا العاملين اللذين خدعاني ان يفعلا شيئاً من اثنين أحدهما صائب والآخر ملتوي: اما ان يصارحني بحقيقة ان السيارة سليمة ويأخذ ثمن الكشف، أو ان يتحلل قليلاً من الأخلاق ويتظاهر ان بالشكمان ثقباً ويأخذ ثمن اللحام الوهمي وهو في النهاية مبلغ بسيط.. لكن من الواضح ان منهج العمل صار هو السعي لنهش الزبون وسرقته بوحشية وذلك ببيعه أجزاء جديدة لا تحتاجها السيارة ثم الاستيلاء على الأجزاء الأصلية السليمة أيضاً وبيعها لمغفل جديد!. وهنا أحب ان ألفت انتباهكم الى ان السرقة ليست فقط ما أدهشني ولكن شيء آخر عجيب.. هؤلاء الشباب من الصنايعية رأيتهم في ميادين الثورة يبلون بلاء حسناً ويذودون عن الوطن بأرواحهم. رأيت فيهم شجاعة وشهامة وجدعنة لا مثيل لها، ولا يحاول أحد اقناعي ان من يثورون ضد الظلم وانتهاك الأعراض هم الصنايعية الذين لا يغشون في الورشة.. لا.. المسألة أعمق من هذا. ويمكن لمن يريد ان يصل الى ما أقصده ان ينظر الى شهيد الشرطة الذي سقط الأسبوع الماضي برصاص تجار المخدرات وهو يطاردهم ويدفع عنا بلاءهم.. لقد بكيت وبكت مصر كلها على شبابه الذي ضاع على يد المجرمين الأوغاد وهو يؤدي واجبه بمنتهى البسالة والأقدام لحمايتنا وكفالة أمننا.. كما ان صورة أسرته الصغيرة وأطفاله الذين تيتموا جعلني أدرك مدى التضحية التي قدمها الشهيد من أجل الوطن. ملحوظة صغيرة فقط أود ان أذكرها هي ان هذا الشهيد العظيم كان قبل عدة شهور قد تم تصويره أثناء ضبط مجموعة من المجرمين في فيديو شهير شاهدناه فيه وهو يقوم بتعذيب أحد المجرمين وصعقه بالصاعق الكهربائي.. أنا أثق ان الله برحمته الواسعة قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأنه بموته أثناء الواجب قد ألحق نفسه بالصديقين والشهداء.. لكن غايتي من الحواديت السابقة هي ان أشير الى ان سنوات مبارك الملعونة قد أحدثت شيزوفرينيا لدي الجميع وجعلت الضابط المستعد لتقديم روحه فداء للوطن لا يدرك ان تعذيب المجرم جريمة! والصنايعي الثائر الجدع الذي يواجه الموت بشجاعة في ميادين الثورة لا يدرك ان سرقة الزبون جريمة! وهو الأمر الذي أتمنى ان تصلحه الثورة من خلال ارساء قيم العدالة الاجتماعية وحقوق الانسان.. فنحن لا تنقصنا الجدعنة ولكن ينقصنا حاكم لا يدفعنا بظلمه للجنوح!.

أسامة غريب
التعليقات الأخيرة
dot4line
 

!function(d, s, id) { var js, fjs = d.getElementsByTagName(s)[0], p = /^http:/.test(d.location) ? 'http' : 'https'; if (!d.getElementById(id)) { js = d.createElement(s); js.id = id; js.src = p + "://platform.twitter.com/widgets.js"; fjs.parentNode.insertBefore(js, fjs); } } (document, "script", "twitter-wjs");
273.011
 
 
 
إعلن معنا
موقع الوطن الإلكترونية – حقوق الطبع والنشر محفوظة
 
Top