كونا- ما زالت اسبانيا تعيش حالة من الجمود السياسي في ضوء انسداد افاق التوصل إلى اتفاق لتشكيل حكومة ائتلافية رغم مرور 43 يوما على الانتخابات العامة في وضع فريد من نوعه بتاريخ الديمقراطية الاسبانية.
واسفرت الانتخابات التي أجريت في 20 ديسمبر الماضي عن تجزؤ البرلمان الاسباني على نحو غير مسبوق منذ عام 1978 عجزت معه الأحزاب عن تحقيق الأغلبية الكافية لتشكيل حكومة منفردة ما فرض عليها التحرك والتفاوض مع القوى السياسية المختلفة لرسم ملامح حكومة ائتلافية للمرة الأولى في تاريخ البلاد. وتنتهي الليلة الثلاثاء الجولة الثانية من المشاورات التي يجريها ملك إسبانيا رئيس الدولة الاسبانية فيليبي السادس لاقتراح مرشح لمنصب رئيس الوزراء بعد ان كان زعيم الحزب الشعبي رئيس الوزراء المنتهية ولايته ماريانو راخوي رفض اقتراحه في ختام الجولة الأولى الأسبوع الماضي نظرا لعدم حصوله على الدعم الكافي لتنصيبه.
وكان الحزب الذي يتزعمه راخوي قد فاز ب 123 مقعدا في البرلمان الاسباني الذي يتألف من 350 نائبا بعيدا عن الأغلبية الساحقة عند 176 نائبا ومفتقرا إلى الأصوات الكافية لتشكيل حكومة منفردة.
ووفق الدستور الاسباني فإنه يقع على عاتق الملك الاسباني اجراء مشاورات مع زعماء القوى السياسية التي تتمتع بتمثيل برلماني قبل اعطاء رئيس مجلس النواب الاسباني اسم مرشح لرئاسة الوزراء سواء كان المرشح برلمانيا أم لا علما ان التقاليد البرلمانية جرت على اقتراح زعيم الحزب الذي المنتصر بالانتخابات لهذا المنصب. وعملا بذلك التقليد فقد عرض الملك الاسباني على زعيم الحزب اليميني راخوي الترشح للمنصب غير ان الأخير رفض ترشحه في خطوة تكتيكية لكسب مزيد من الوقت على أمل كسب تأييد أحزب أخرى والتوصل لاتفاقات معها لتنصيبه لولاية جديدة. وكان راخوي يعول على إمكانية التوصل إلى اتفاق مع الحزب الاشتراكي وزعيمه بيدور سانشيز لتشكيل "تحالف كبير" بين الحزبين الأساسيين في البلاد عازيا ذلك إلى عزمه على تشكيل حكومة مستقرة تسمح لإسبانيا بالمضي قدما بالإصلاحات الهيكلية التي اتخذتها الحكومة المنتهية ولايته وضمان حالة من الاستقرار الاقتصادي.
الا ان سانشيز الذي حاز حزبه 90 مقعدا في مجلس النواب أعلن رفضه التفاوض مع الحزب اليميني ولم يفتح الأبواب في الوقت نفسه للتفاوض مع حزب (بوديموس) الراديكالي الصاعد بزعامة بابلو اجليسياس المطالب باجراء استفتاء في (كتالونيا) حول انفصال الإقليم عن إسبانيا الانفصال عن إسبانيا لأن ذلك سيبث رسالة تتنافى مع مبادئ الحزب الاشتراكي بالدفاع عن وحدة إسبانيا.
وكان زعيم (بوديموس) الذي يحظى ب 69 نائبا اقترح علنا مخطط حكومة ائتلافية مع الحزب الاشتراكي في ختام جولة المشاورات الأولى مع الملك الاسباني غير ان قادات الحزب الاشتراكي اعتبروا ذلك "إهانة".
لكنهم لم يغلقوا الباب كليا في وجه اجليسياس ما يجعل التوصل الى اتفاق لتشكيل حكومة يسارية ممكنا لكن بملامح مازالت غامضة.
ويختتم الملك الاسباني جولة المشاورات الليلة بالاجتماع مع سانشيز وراخوي الذي من المتوقع ان يرفض للمرة الثانية عرض الملك الاسباني بتنصيبه نتيجة اخفاقه في الاتفاق مع التمثيلات السياسية الأخرى. وبالمقابل كان سانشيز اعلن استعداده ورغبته بتولي هذه المسؤولية في حال عرضها عليه وبدء المفاوضات مع الأحزاب الأخرى لتشكيل حكومة. وفي حال تم ذلك فإن الملك فيليبي السادس سيخطر رئيس البرلمان الاسباني الاشتراكي باتشي لوبيز باسم المرشح فيتولى لوبيز بدوره مهمة تحديد موعد جلسة التصويت العامة الأولى والتي يتعين فيها على المرشح الفوز بالأغلبية الساحقة لتصيبه. وإن أخفق المرشح في ذلك ستعقد جلسة تصويت أخرى في غضون 24 ساعة يحتاج فيها لحصوله على الأغلبية البسيطة فقط لتنصيبه غير ان فشله في ذلك يطلق العد التنازلي لمهلة شهرين تعلن مع انتهائها الدعوة إلى انتخابات جديدة مالم يتم التوصل إلى اتفاق.
ولا يشترط الدستور الاسباني أو يحدد المدة التي يمكن فيها للحكومة المنتهية ولايتها الاستمرار في شغل مهامها أو المهلة القصوى اللازمة لتحديد اسم مرشح ما لشغل منصب رئاسة الوزراء وإجراء جلسة التصويت الأولى التي يحددها موعدها رئيس مجلس النواب وفق ما يراه مناسبا لكنه ينص على منح مهلة شهرين فقط عقب إجراء جلسة التصويت تلك قبل اعادة اجراء الانتخابات. ويقع الاشتراكي سانشيز على مفترق طرق بين التوصل إلى اتفاق مع الحزب الشعبي اليميني من جهة والتوصل إلى اتفاق مع الأحزاب الراديكالية والقومية من جهة أخرى رغم ان احتمالات نجاح أي منهما مازالت ضئيلة في ضوء رفض كافة الأحزاب التفاوض البناء مع جميع الأحزاب الأخرى. وينقسم الحزب الاشتراكي بين مؤيدين لدعم تنصيب راخوي لولاية جديدة للحفاظ على استقرار اسبانيا السياسي والاقتصادي والحفاظ على وحدتها الجغرافية وقطع الطريق على حزب (بوديموس) اليساري الراديكالي الصاعد. من جهة أخرى لا يتفهم البعض الآخر ذلك التأخير في التوصل إلى اتفاق مع الأحزاب القومية اليسارية الأخرى ومنها (بوديموس) لتشكيل حكومة ائتلاف تقدمية تزرع سياسات تعيد إسبانيا إلى حالة الرفاه الاجتماعي. ويبحث حزب سانشيز أيضا عن تأييد حزب (سيودادنوس) الصاعد الذي يحظى ب 40 مقعدا بالبرلمان غير ان الأخير كان أعلن رفضه التام تأييد أي حكومة بشكل (بوديموس) جزءا منها في الوقت الذي رفض فيه كذلك تأييد الحزب اليميني لتورطه في قضايا فساد عديدة وعجزه عن قيادة عملية التجديد الديمقراطي.
وفي ضوء ذلك السيناريو المعقد ونأي الأحزاب الأربعة الأساسية عن التفاوض فإن جميع المؤشرات تقود إلى الإعلان عن انعقاد انتخابات جديدة تكشف الاستطلاعات عن تمخضها عن نتائج مشابهة جدا للانتخابات الأخيرة أو إقامة حكومة ائتلاف من ثلاث أو أربعة أحزاب قصيرة العمر. ويرسم ذلك ملامح مشهدين سياسيين يؤكدان تغلغل التنوع في التوجهات السياسية عميقا لدى الشعب الاسباني الذي قاسى تبعات الفساد السياسي فبات يتطلع نحو آفاق جديدة غير مستكشفة ما دفع البعض لاعتبار ان البلاد تعيش مرحلة "انتقال ديمقراطي" جديدة