مقالات  
نسخ الرابط
 
   
   
 
  A A A A A
X
dot4line

الطريق إلى الله

معرفة دار المقر (2)

السيد ابوالقاسم الديباجي
2014/07/24   08:56 م

شكرا لتصويت

التقيم التقيم الحالي 0/5
writer image



ان السالك الى الله يشعر بالغربة في الدنيا والبعد عن دار القرار ومحال القدس وموطن القرب من الحق تعالى فيصرف همته في طلبها والرحيل اليها، ولذا ترى الخواص من الناس يرغبون في الخلوة للمناجاة مع الله عزَّ وجلَّ والبَون عن الخلق بباطنهم وسريرتهم، ويتفكرون دوما في صنع الله ومحاسن تصويره وبدائع خلقه وفسيح ملكوته، ولا يكونون كالذين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، بل يتقربون بالمعارف الالهية الى الله تعالى بالشوق والأنس والسرور حتى تكره نفوسهم البقاء في هذه النشأة المجازية، وتتمنى الخروج منها الى دار الآخرة وهي دار البقاء ومحل المشاهدة واللقاء وجوار الله تبارك وتعالى في منازل الرحمة ومواقع البركة، فما كان تعبهم في الدنيا للدنيا بل لنيل سعادة الآخرة ونعيم عقبى الدار.
واعلم أيها القارئ الكريم ان الحياة في الدنيا تكون حقة اذا كانت مقدمة موصلة لنيل خير الآخرة، وقد قال الامام على المرتضى(ع): «انَّما الدُّنْيَا دارُ مَجازٍ والآخِرَةُ دارُ قَرارٍ فَخُذُوا مِنْ مَمَرِّكُمْ لمَقَرِّكُمْ»، وقال مولانا أبو عبدالله الصادق(ع): «نِعْم العَوْنُ عَلَى الآخِرَةِ الدُّنْيَا»، فالدنيا مزرعة الآخرة، من زرع فيها خيرا جنى في الآخرة خيرا ومن زرع فيها شرا جنى شرا.
وقد وصف أهل الله الدنيا أنها دار تجارة تُباع فيها النفوس وتُشتَرى، والكل فيها تاجر بنفسه لا تخلو تجارته من كسب أو خسارة كما أشار الى ذلك الامام (ع) في قوله: «الدُّنْيَا دارُ مَمَرٍّ الى دارِ مَقَرٍّ والناسُ فيها رَجُلانِ رَجُلٌ باعَ نفْسَهُ فأوْبَقَها ورَجُلٌ ابْتَاعَ نفْسَهُ فأعْتَقَها».
وعلى هذا الأساس ينقسم الناس في تجارة أنفسهم في الحياة الدنيا الى طائفتين: الطائفة الأولى: وهم أهل الدنيا والغفلة الذين أخطأوا دار المقر وفرحوا بالدنيا وركنوا اليها، فباعوا أنفسهم في مقابل الهوى والشهوات الزائلة واللذات الداثرة، وهي متاع يتمتعون به أياما قلائل: {يَا أيُّها النَّاسُ انَّما بَغْيُكُمْ عَلى أنفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحياةِ الدُّنْيَا} (يونس:23) وهم عن الآخرة غافلون {ثمَّ الَيْنَا مَرْجِعُكُمْ} (يونس:23) وهي الباقية الأبدية: {وَالآخِرَةُ خَيرٌ وَأبْقَى} (الأعلى:17)، مع العلم ان الانسان بطبعه يجتهد ألا يبيع المادة في أسواق الدنيا الا بما يعود عليه بالربح والفائدة ويخاف ان يتركها خشية كسادها، ولكن انظر الى هؤلاء كيف باعوا أنفسهم بأبخس الأثمان وقد قال الله تعالى في شأن الانسان: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (الاسراء:70)، وكانوا عبادا أذلاء للقوى الشهوية والغضبية والسبعية ومنقادين لأغراضها وأمانيها ففسدت معاملتهم وكسدت تجارتهم التي ذمَّها أمير المؤمنين(ع) بقوله: «ولَبِئْسَ المَتْجَرِ ان تَرَى الدُّنْيا لنَفْسِكَ ثَمَناً «، فكانت العاقبة فساد أنفسهم وتَبارها: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (البقرة:102)، فيا حسرة على العباد الذين أبدلوا دار المقر بدار الممر فكان جزاؤهم الضلال والخسران المبين: {أولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالهُدَى فَمَا رَبِحَت تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (البقرة:16)، بل أشد من ذلك ابتلاؤهم بالخذلان والعذاب الأليم: {أولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} (البقرة:86).
الطائفة الثانية: وهم أهل الآخرة الذين ابتاعوا أنفسهم وأعتقوها من رق الدنيا وخلَّصوها من أسر الهوى وأخرجوها عن مقارها الحيوانية وأنجوها من مألوفاتها الشهوانية ابتغاء مرضات الله، ثم دخلوا في معاملة رابية مع الله وباعوا أنفسهم من الله لا لهوى نفسي ولا لغرض مادي بل قربة خالصة الى الله تعالى، فقبلها منهم ربهم بأحسن القبول واشتراها منهم خير شراء وأمضى لهم ذلك بقوله: {انَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المؤْمِنِينَ أنفُسَهُمْ وَأمْوَالَهُمْ} (التوبة:111).
ولكل بيعٍ بائع ومشتر وسلعة وثمن، فالبائع هو المؤمن العارف بالله، والسلعة هي الأنفس والأموال، فماذا يكون الثمن في مثل بيعٍ يكون المشتري فيه هو الله عزَّ وجلَّ؟! الثمن ما وعدهم الله تعالى بوعده القطعي في قوله: {بِأنَّ لَهُمُ الَجنَّةَ}، ولكن أية جنة يبتغيها العارف بالله؟! هل هي جنة الحور والقصور!! أم جنة الأُكُل والنَّهَر!! أم جنة الحرير واللؤلؤ والفضة!! العارف وغير العارف في ما ينعم الله تعالى عليهما من الجنة المحسوسة على السواء، ولكن العارف يفوز بما يزيد على غير العارف بالجنة المعنوية، فله الجنتان، قال تعالى: {وَجَنَى الَجنَّتَين دَانٍ} (الرحمن:54) وهي جنة القرب، جنة الأنس، جنة الزلفى، جنة اللقاء، جنة الوصال، بل أعظم من ذلك فاعلم يا عزيزي القارئ - وهذا أمر غاية في الدقة - ان في المعاملات الدنيوية يكون كل من البائع والمشتري والسلعة والثمن مستقلا عن الآخر، وأما في المعاملات الأخروية فتكون السلعة هي نفس البائع وهو العارف بالله والثمن هو المشتري وهو الله سبحانه، أليس الله تعالى يقول في حديثه القدسي: «الصَّوْمُ لي وأنَا أُجْزَى بِهِ».
وقد تتساءل وتقول: ان الله تبارك وتعالى هو مالك المُلْك يؤتي المُلْك من يشاء وينزع المُلْك ممن يشاء فكيف يكون هو المشتري لما يملك والمشتري انما يشتري لما لا يملك؟! نعم، ذلك ليس ببعيد عمن هو لطيف بعباده ان يأتيهم بصورة المشتري للأنفس والأموال وهو مالكهما ومالك كل شيء حتى يثبت لهم الجزاء ويضمن لهم الثواب ويَمُنَّ عليهم بالعطية، فأي تنزُّل أعظم من التنزُّل الالهي الموصوف بالرأفة والرحمة!!

السيد ابو القاسم الديباجي
الامين العام للهيئة العامة للفقه الاسلامي
أخبار ذات صلة dot4line
التعليقات الأخيرة
dot4line
 

!function(d, s, id) { var js, fjs = d.getElementsByTagName(s)[0], p = /^http:/.test(d.location) ? 'http' : 'https'; if (!d.getElementById(id)) { js = d.createElement(s); js.id = id; js.src = p + "://platform.twitter.com/widgets.js"; fjs.parentNode.insertBefore(js, fjs); } } (document, "script", "twitter-wjs");
798.0056
 
 
 
إعلن معنا
موقع الوطن الإلكترونية – حقوق الطبع والنشر محفوظة
 
Top