مقالات  
نسخ الرابط
 
   
   
 
  A A A A A
X
dot4line

أفكار وأضواء

الطرب.. عند العرب

خليل علي حيدر
2012/08/07   03:43 م

شكرا لتصويت

التقيم التقيم الحالي 0/5
writer image

فكر


لم يكن عجيباً أن تقوى الوشيجة بين الشعراء والقيان في العصر الجاهلي

يمكن من خلال تتبع أخبار فن الغناء وقصصه عند العرب معرفة الكثير

دخل فن الغناء حياة العرب قبل الاسلام وبعده من مداخل مختلفة. ويمكن من خلال تتبع اخباره وقصصه معرفة الكثير، كما بينا في مقالات سابقة، عن حياة المجتمع في صدر الاسلام. كانت المرأة المغنية مثلا من الادوار المعروفة لبعض النساء قبل ظهور الاسلام. وقد اولع العرب بالغناء لحاجة معيشية في بعض الاحيان، اذ كان العربي، يقول د. أحمد الحوفي، «يتغنى وهو يقطع المسافات الطوال على ظهر راحلة تمشي به متئدة أو مرفلة، وهو يهتز على ظهرها هزات تبطئ وتسرع، وتطول وتقصر. وكان يتغنى وهو يهجم في الحرب فيجري او يثب، ويتغنى وهو يمتح الماء من البئر فيعلو جسمه او ينخفض، ويتغنى وهو يرقص، ويغني وهو يزاول عملا تصحبه العاطفة وتعوزه التسلية، تنزل به النازلة فيروّح عن نفسه بالغناء، وتبسم له الحياة فيصور حبوره في غناء. فالغناء حداء الركب وشدو الفرد، واهزوجة المنتصر، واغرودة العاشق، وسلوى المكروب والمحروب. (المرأة في الشعر الجاهلي، 1963، ص555).
وقد ارتبط الشعر بالغناء منذ البداية برباط وثيق، اذ كان شعراء العصر الجاهلي يغنون شعرهم وينشدون وهم يلقونه. وهم يعبرون عن الانشاد احيانا بالغناء. وكان كل من الاعشى وامرؤ القيس يغنيان في شعرهما، كما كانت النساء يتغنين بالشعر وهن يرقصن اطفالهن، وكن يبكين موتاهن بغناء حزين هو النواح، كما ناحت الخنساء على اخويها، وهند بنت عتبة على ابيها وعمها واخيها، وكن يغنين في المعارك ليشجعن الرجال على الحرب، وظل لفظ الانشاد الى ما بعد العصر الجاهلي دالا على القاء الشعر، وان لم يصاحبه غناء، وكثيرا ما غنى الرجال بشعر حماسي وهم يحاربون.
وكان الشعر وثيق الصلة بالغناء لدى اليونان كذلك، فاطلق اليونان على الشاعر كلمة Aede اي المغني، حيث كان هوميروس مثلا يتغنى بالالياذة على آلة موسيقية، بل ان الشعر الغنائي نفسه استمد اسمه من نسبة الى كلمة Lyre، وهي آلة موسيقية وترية قديمة عرفت منها انواع مثل الـCithara وغيرها، وتعددت اوتارها ما بين دول البحر المتوسط وافريقيا، وكانت معروفة في اقدم الحضارات، حيث لا تزال مستخدمة في السودان والحبشة. وتسمى آلة Lyre بالقيثارة التي يعرفها المعجم الوسيط بانها «آلة طرب ذات ستة اوتار»، ويقول ان التسمية لفظ اجنبي دخل العربية دون تغيير كالاكسجين والتليفون.
ومنذ عهد قديم اطلق الانجليز كلمة «بارْد» Bard على الشاعر المغني الذي كان يتغنى امام المحاربين ويعزف على آلة موسيقية. ثم ظهرت طائفة التروبادور Troubadour في القرن الحادي عشر في شرق اسبانيا وفي ايطاليا وفرنسا، وكانوا يتنقلون من قصر الى قصر ينشدون شعرهم، ويوقعون على آلات موسيقية معهم. ونرى من خلال قراءتنا لكتاب الحوفي ان الموازين مالت لصالح المرأة في مجال الغناء.. منذ ذلك العصر!
فقد تغنى العرب بشعرهم فرادى وجماعات، رجالا ونساء، وتنوع غناؤهم وان كان اصله ومعدنه في امهات القرى من بلاد العرب ظاهرا منتشرا، مثل المدينة والطائف وخيبر ودومة الجندل واليمامة.
ويقول د. الحوفي «كانت النساء أليق باحتراف الغناء من الرجال، لانهن في الغالب اندى صوتا واحلى ترجيعاً وارق نغما، ولان لجمالهن وانوثتهن اثرا في الطرب لهن». وقد سبقه الجاحظ حيث امتدح غناء النساء وذم غناء الرجال، فتساءل في بعض رسائله يقول، «فأيما احسن واملح واشهى: ان يغنيك فحل ملتف اللحية، كث العارضين، او شيخ منخلع الاسنان، مغضن الوجه، ام تغنيك جارية كأنها طاقة نرجس او كأنها ياسمينة، او كأنها خرطت من ياقوت او من فضة مجلوة». فمن يرفض الغناء النسوي بعد هذا العرض؟
اشتهرت بعض المغنيات من القيان قبل الاسلام ممن احترفن الغناء. والقيان جمع «القينة»، وهي الامة المغنية، من «التقين»، وهو التزين، ومنه قيل للمرأة «مقينة»، اذا كانت تزين النساء.
وقيل القينة: الامة مغنية او غير مغنية.
ابتعد العرب الذكور عن احتراف الغناء.. الا عن اضطرار فيما يبدو! يقول د. احمد الحوفي في كتابه «المرأة في الشعر الجاهلي»: «انصرف العرب عن الاحتراف بالغناء، على شغفهم به وطربهم له. ولعل السبب انهم كانوا يكسبون ارزاقهم من الحرب، ومن التجارة والرعي، وانهم كانوا يتجافون عن انواع الصناعات، وان مكانة المغني - وان اطرب ونال العطاء الجزل - لم تكن توائم المكانة التي يريدها العربي لنفسه، ثم انهم وجدوا الغناء اليق بالنساء من الرجال». ولم يكن هذا الترفع مقتصرا على الرجال، فقد انصرفت كذلك النساء الحرائر عن الغناء، «لانهن اما مكفولات الرزق برجالهن واما كاسبات رزقهن باعمال غير الغناء».
ويستطرد د. الحوفي في حديثه عن مصاعب مهنة الغناء للنساء فيقول: «وما من شك في ان الغناء يقتضي من المرأة المغنية ان تتزين للسامعين، وان تبرز بعض مفاتنها لهم، وان تكون مناط انظارهم ومجمع اشتهائهم - كما تحدث الشعراء - وما يرضى رجل عربي ان تكون ملتقى الانظار والشهوات امرأة تربطها به صلة، ولا تجرؤ عربية ان تشذ عن بنات جنسها، فتحتل هذا الموضع المخصص للإماء. لهذا كانت الكثرة الغالبة من القيان في العصر الجاهلي غير عربيات، ومازالت هذه الكثرة من الموالي والجواري في العصر الاسلامي والعباسي». وهذا ما يؤكده المستشرق «ليال» Lyall، فيقول «ان القيان كن فارسيات او يونانيات من سورية، وانهن كن يغنين بالعربية، وربما غنين بلهجة اجنبية». ويضيف اخرون اليهن الحبشيات، كما يؤكدون انهن جميعاً ربما غنين بلغات غير العربية. وقد رؤي ان ابا تمام قد سمع غناء بخراسان بالفارسية، فلم يدر ماهو، اي لم يكن يعرف معاني الكلمات، غير انه اشجاه وعبرعن مشاعره بالقصيد فقال:
ولم افهم معانيها ولكن
وَرَت كبدي فلم اجهل شجاها
فكنت كأنني أعمى مُعَنَّى
يحبُّ الغانيات ولا يراها
واستخدم القرشيون الغناء ضد الدعوة الاسلامية، فقد كان لابن خطل قينتان يعلمهما الغناء بهجاء النبي، فامر النبي بقتلهما يوم الفتح. فأما «قُريبة» فقتلت مصلوبة، واما «فَرتَنا» ففرت حتى استؤمن لها الرسول فامنها فآمنت.
وكن يغنين وراء المحاربين ليلهبن حماستهم، فان قريشاً كانت قد خرجت في غزوة بدر ومعها ثلاث قيان، ثم خرجت قريش في احد ومعها قيانها. وكان الرجل يستمع الى الغناء ليشجع ويثأر. وكن يغنين في المآدب والاعراس، او للتسلية والتطريب، كما غنت القيان ايضا بالاسواق اذ كان «بدر» «موسماً من مواسم الجاهلية، يجتمع به العرب، ولهم به سوق ينحر بها الاشراف الجزر – اي الخرفان – ويطعمون الطعام ويشربون الخمر، وتعزف القيان لهم». كما تشير المراجع التاريخية. وكان الشراب كثيراً مايصاحب الغناء. وكان الاعشى يشرب الخمر ويسمع الغناء الرومي عند اساقفة نجران. اما امرؤ القيس فكان ينتقل في احياء العرب ومعه رفاقه، فاذا صادف غديراً او روضة او موضع صيد اقام فذبح لمن معه كل يوم، وخرج الى الصعيد، ثم عاد فأكل واكلوا معه، وشرب الخمر وسقاهم، وغنته قيانه، كما يقول الاصفهاني في «الاغاني».
وقد اولع الغزليون بالصوت فيه غنّه، واولع الشاربون بصوت المغنية الابح، وقد يفخرون بان البحة من اثر الخمر غير ان د. الحوفي يقول، ص 573، «لم اجد في العصر الجاهلي نساء يشربن الخمر». وهي ملاحظة تثير البحث والتأمل.
من جانب اخر تعمق التفاعل بين الشعر والغناء، فقد تغنى الشعراء بشعر القيان وتغنت القيان بشعر الشعراء. ويرجح د. الحوفي ان الغناء بالشعر كان عظيم الاثر في اوزانه وتطورها، بل ان العرب كانوا يزنون شعرهم بالغناء. وكانت القيان اكثر غناء بالشعر من الشعراء انفسهم، والشعراء يسمعونهن ويطربون لهن، فهم يجودون شعرهم ويتخيرون وزنه ليكون سهل التلحين والترجيع. وهم اذا ما سمعوه يغني تنبهوا الى ما قد يكون فيه من عيب الوزن او القافية، فلم يكن عجيبا ان تقوى الوشيجة بين الشعراء والقيان في العصر الجاهلي ثم قويت اللحمة بين الشعراء والمغنين والمغنيات في العصر الاموي والعباسي.
ومن اغرب الاشارات التي يوردها د. الحوفي في كتابه نقلاً عن كتاب الاغاني قوله ان زيد بن ثابت الانصاري «ختن بنته فأولم»! ويقول: فاجتمع اليه المهاجرون والانصار وعامة اهل المدينة، وحضر حسان بن ثابت وقد كفّ بصره يومئذ وثقل سمعه، فلما اكلوا ضربت المغنية «عزة الميلاء» على مزهرها وغنت احدى قصائد حسان، فطرب وبكى.
ويقر د. الحوفي بالاثر الكبير للموسيقى الفارسية على البيئة العربية، وبخاصة بعد الاسلام، حيث دخلت هذه الموسيقى بلاد العرب «مع اسرى الفرس الذين وفدوا الى مكة افواجاً، وعلموا العرب الغناء على نغمات الدف والناي والطنبور والعود». الا ان د. الحوفي من جانب آخر، يلاحط الاضطراب في روايات ابي الفرج الاصفهاني، التي «لاتلتقي عند شخص معين يصح ان ننسب اليه السبق في ادخال الغناء الفارسي او العربي، فهو مرة ابن مسجح، ومرة ابن محرز، وثالثة سائب خاثر، ورابعة نشيط، وخامسة طويس» ويقول: و«لست اذهب الى انكار اثر الغناء الفارسي والرومي في العربي، بل اني اؤكد انه رفده ومدّه، وانما اذهب الى ان هؤلاء كان لهم فضل في تطوره وتجديده ورفده بالغناء الاجنبي، ولم يكن اي واحد منهم هو السابق، لان العرب عرفوا هذا الغناء من قبل، واطربتهم به قيانهم، وتحدثوا عن آلات الموسيقى فارسية ورومية وحبشية قبل ان يوجد واحد من هؤلاء المغنين».
ثم يضيف د. الحوفي: «ولست اشك في ان الغناء شق طريقه نحو الرقي والكمال بعد اتصال المسلمين بالفرس والروم وغيرهم، وصار فناً رفيعاً يختص به ذوو اللهوات الحلوة، والاذواق العالية، والحس المرهف من نساء ورجال. وقد بدأ ذلك منذ صدر الاسلام، اذ انتشر الغناء وذاع، واتخذ طرباً ومسلاة» ويقول: «ان بعض البدو ظلوا يجهلون آلات الموسيقى الدخيلة الى العصر العباسي فان ناهض بن ثومة بن نصيح الشاعر الفارس كان بدوياً جافياً كأنه من الوحش، وقد انتجع الشام في العصر العباسي، فقصد صديقاً له من ولد خالد بن يزيد بن معاوية بحلب، فرأى عرساً، فتحدث بما رأى حديثاً طريفاً، كقوله: «جاء شاب بخشبة عيناها في صدرها، فيها خيوط اربعة، فاستخرج من خلالها عوداً، فوضعه خلف اذنه، ثم عرك آذانها وحركها في يده، فنطقت ورب الكعبة، واذا هي احسن قينة رأيتها قط، وغنى عليها فأطربني حتى استخفني من مجلسي، فوثبت فجلست بين يديه وقلت: بأبى انت وامي ماهذه الدابة؟ فلست اعرفها للاعراب، ومااراها خلقت الا قريباً. فقال: هذا البربط. فقلت فما هذا الخيط الاسفل؟ قال: الزير. قلت: فالذى يليه؟ قال: المثنى، قلت: فالثالث؟ قال: المثلث. قلت: فالاعلى؟ قال: البُم. فقلت: آمنت بالله اولا، وبك ثانياً، والبريط ثالثاً، والبم رابعاً».

خليل علي حيدر
أخبار ذات صلة dot4line
التعليقات الأخيرة
dot4line
 

!function(d, s, id) { var js, fjs = d.getElementsByTagName(s)[0], p = /^http:/.test(d.location) ? 'http' : 'https'; if (!d.getElementById(id)) { js = d.createElement(s); js.id = id; js.src = p + "://platform.twitter.com/widgets.js"; fjs.parentNode.insertBefore(js, fjs); } } (document, "script", "twitter-wjs");
267.9983
 
 
 
إعلن معنا
موقع الوطن الإلكترونية – حقوق الطبع والنشر محفوظة
 
Top