منوعات  
نسخ الرابط
 
   
   
 
  A A A A A
X
dot4line

منتدى الفكر والحضارة

تجليات المشهد القادم في ميدان البرلمان... رؤية لواقع الحركة الإسلامية في الانتخابات

الشيخ الدكتور جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين
2012/01/28   05:49 م

شكرا لتصويت

التقيم التقيم الحالي 5/0
تجليات المشهد القادم في ميدان البرلمان... رؤية لواقع الحركة الإسلامية في الانتخابات



بقلم: الشيخ جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين





أيها الطامِحون... إلى ما لا تُدركون... لا تُغردوا خارج السرب... وكونوا عباد الله إخواناً (داخل، وخارج البرلمان)

احذروا الفُرقة... وبذور الفتنة... واذكروا مساجد الضرار... قديماً... ومنابر الضرار حديثاً

إنما يتأتى الخللُ، قصورٌ في منهجية الحركة نفسها... ثمَّ من أسبابٍ تتعلق بأفراده...‍!!

أيها المرشحون... إنَّما البرلمانُ، وسيلةٌ... والدعوةُ غايةٌ... والعاقلُ لا يضيع الغايات الكريمات... بالوسيلات المتغيرات...!!

صدق سلفُنا: الحرصُ حرصان... حرصٌ فاجع، وحرصٌ نافع...!! أتُرى؟ الحرصُ على اعتلاء قُبة البرلمان من أي نوعٍ، ومن أي فرع...؟!!


< أيها الطامح للبرلمان.… لا تغرد خارج السرب
نعم، قد علمنا ان الطيور تروح، وتجيء أسراباً مجتمعات، لا أفراداً متناثرات... هذا دأب الطيور... تغرد معاً... تقبض، وتبسط أجنحتها معاً، فهل أنت أقل حالاً منهم...؟!
وهل أنت دونهم طَموحاً ومطمحاً؟
أوَ ماسمعت قولَه تعالى ينبه على جمال، وجلال ذلك التآلف... وهذا التحالف الجماعي كما في قوله قال تعالى: {وَلَمْ يَرَوْا إلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إلَّا الرَّحْمَنُ}(1).
ولله درُّ القائل:
السِّرْبُ ما في السِّرْبِ مِنْ
عَجَبٍ لِذي قلبٍ يَعي
تنضمُّ حينَ جلائِهِ
أشلاؤهُ في مَجْمْعِ
مِنْ غَيْرِ ميعادٍ تَقَدَّمَ
لِلرَّحيلِ المُزْمَعِ
وبلا اصْطِدامٍ في الزِّحام
مُحَطِّمٍ وَمُصَدِّعِ
لذلك ينبغي على العاقل، ألا يغرد خارج السرب، وأن يلزم سربه، ويقصد دربه... ويمضي بمضيهم ويغرد بلحنهم... ويشدوا بشدوهم وألا يبدوا نشازاً...
ولله القائلُ:
بلبلٌ أنتَ ففي الأَرْضِ امْرَحِ
ومعَ السِّرْبِ بِلَحْنٍ فاصْدَحِ
ومن كان طيراً خرج عن بيئة الطيور، لقيَ: (حَتفهُ وَرداهُ)، على ما قال القائل:
كلُ منَ أوتيَ حظاً مِنْ حَياة
في سِوى بيئتِهِ يَلْقى رَداه
وهكذا فانَّ بيئة الداعية هي كل مكان يدعو فيه، وليست قصراً على مَيدان البرلمان... ليتقصدها وحدها دون غيرها... ويجالدَ ويحاددَ اخوانه في سبيلها.

احذروا الفرقة... ومنابر الضرار...!!
من منَّا لا يعرف مسجد ضرار؟! يوم أراد بعض المنافقين من المسلمين ان يشقوا الصف الاسلامي، ويقيموا مسجداً ظاهرُهُ الرحمةُ، وباطنُه فيه المكر والضرار بالمسلمين، أمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدمه...بل وبتحريقِهِ...(2).
أخي! هذا حالُ مسجدٍ أمر رسولُ الله، بحرقه، وتهديمه، لأنه ماكان وُفق المخطط النبوي، ولا على هديه.. وان تمسَّح ذووه بأنه مسجد، وان زينوه، وزخرفوه، فانما هو زُخرف الغُرور آل الى النار والبوار... وكذلك الحال في التنافس على منابر البرلمان، والتي يفترض في السير اليها ان يكون سعياً لله، وعلى سنن رسول الله وعلى هديٍ من الاسلام، والا كانت منابر ضرار... الى النار مثواها وعقباها...!!!.

احذروا الغَيرة من الآخرين... فانها رأسُ الفتنةِ... ومقبرةُ المُربيّن...
الغَيرة من الأسباب الرئيسية في تلك الظاهرة الخطيرة، من تدافع على الرئاسة، والوجاهة..! وَلَكم أفسدتِ النفوس..!! ولكم مزقت سُتور الاخلاص..! ولكم قطعت أواصرَ القربى... وكم وكم وكم......!!.
ولننصت الى تلك العبارات المعبرات، في التحذير منها على الدعوة، ومثلها وغاياتها، وما أشد حاجتنا اليها، وقد أوشكت ظلال الانتخابات ان تعمنا... وكم يُثير هذا من نفوس... ويُمد من أعناق.. ويُوقظ من مطمع..
فالغَيرة من الآخرين، من الأسباب التي تؤدي الى السقوط على طريق الدعوة، وبخاصة من المتقدمين، والمرموقين، والموفقين، والذين أوتوا نصيباً من الأهلية التي يفتقدها أولئك...
فالجماعات تضم بين صفوفها أصنافاً شتى من الناس، ومستويات شتى من المؤهلات الشخصية والنفسية والعصبية والفكرية، فالذكاء مستويات.. والثقافة مستويات.. والقدرة على الكتابة، والخطابة مستويات.. وهذا ما يجعل العاملين متفاوتين في العطاء، والتأثير، والتفاعل وفي كل شيء، وهو أمر طبيعي وبديهي..
ولكن بسبب الغَيرة أحياناً يرفض (المُحدَدُون) ان يلتزموا حدودهم، فيَعمدون الى (التسلُّقِ) بشكل، أوبآخر، فيجتهدون أنفسهم بدون طائل.. وقد يُصاب بعضهم بصدمات نفسية تلقي بهم خارج الصف، أو تدفعهم الى الانتقام لأنفسهم ممن يعتبرونهم سبباً في فشلهم.. وهنا قد تقع الطامة، حيث يتجاوز المرء حدود كل شيء، متفلتاً من كل المُثل، والقيم، والأخلاق، لينال من أخيه الذي أضحى عنده عدواً لدوداً، لا ترتاح نفسُه قبل ان يَنتقم منه(3).

وكأنَّ التاريخَ يُعيدُ نفسَه...
ولكأنَّ التاريخَ يعيد نفسه، وصورةُ الغَيرة القاتلةِ تتكرر، من لدن ابني آدم (قابيل وهابيل) حيث قال الله تعالى فيهما: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ اذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ انَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (سورة المائدة: 27).
والقرآن الكريم بشير الى داء الغيرة والحسد في مواقع كثيرة.. من ذلك قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ ابْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} (سورة النساء: 54).
والرسول صلى الله عليه وسلم يحذر من، الغيرة، والحسد، في أحاديث كثيرة، منها:
- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله اخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره التقوى ها هنا - ويشير الى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر ان يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه(4).

فلننتبه!!!... وقبل وقوع الواقعة
ما يحدث هذه الأيام، من تدافع، وتداع، وتكاثر... على الظهور، والبروز، وتولي المَهام... في غير زُهادةٍ، وفي غير مُبررٍ، وفي غير تنظيم..!! نذيرٌ على الحركة الاسلامية أجمع... وداعٍ من دواعي اعادة ترتيب الأوراق... وتحسُّس مكان الخلل، وموضع الزلل للعمل على علاجه قبل وقوع الواقعة... وقبل ان يَهتف بنا الناعي:
لا نَسَبَ اليومَ ولا خُلَّة
اتَّسَعُ الرَّقعُ على الرَّاقعِ
وأظن من وجهة نظري:أنَّ سببَ الخللِ يجمع بين أسبابٍ في منهجية الحركة نفسها، وأسبابٍ تتعلق بالأفراد...
وأرى من الأجدى ان نتحسَّس معاً أهمَّ تلك الأسباب، فيما يتعلق بالحركة نفسها وهي على الآتي:
أولاً: ضعف الجانب التربوي
فالجانب التربوي قد يأخذ من الحركة حيزاً محدوداً، في حين تطغى الجوانب الأخرى الادارية، والتنظيمية، والسياسية على كل شيء.
ويبرز هذا بشكل واضح، وجلي، ودائم في حياة القادةِ، والاداريين، والذين يتولون الشؤون السياسية، والاجتماعية، مما يجعلهم مقطوعي الصلة بالتربية، والشؤون التربوية نظرياً وعملياً، وبالتالي يجعل علاقاتهم، واجتماعاتهم وممارساتهم جافة خالية من طلاوة الربانية، وعذوبة الروحانية..
والأجواءُ الجامدة تبعث دائماً على التوتر، والحساسية، بعكس الأجواء الروحية التربوية الرطبة، بذكر الله، ورقابته.
والمسؤول السياسي، أو الاداري، أو الاجتماعي وغيره، وهو على ثغرة مسؤوليته، قد يظن أنه بلغ سنام الأمر، وحقق ذروة النصر، من غير ان يحس بالخواء النفسي، والروحي والانكفاء التربوي، ومن غير ان يشعر بالتآكل الايماني في حياته.. وهو ان لم يفطن لذلك ويبادر لاستنقاذ نفسه، فانه ساقط لا محالة..
فَتَعَهُد الأفرادِ بالتربية – جنوداً وقياديين- يجب ان يكون شغل الحركة الشاغل كائناً ما كانت الظروف من حولها..
بل ان الظروف السيئة التي تمر بالدعوة أحياناً تفرض المزيد من الاهتمام وليس العكس، لأنَّ احتياج الناس الى الرعاية والاهتمام والتذكير انما يكون أكبر في الظروف الاستثنائية.
ان منطقاً يجب رفضه بالكلية، وهو منطقُ اعتبار بعض الأشخاص فوق التربية، أو بدون حاجة الى التربية، أو أنهم تجاوزوا مرحلة التربية.. وهذا المنطق هو الذي يورد هؤلاء الناس موارد التهلُكة، ويتسبب في اسقاطهم، أو سقوطهم..
انَّ هذا المنطق يتناقض بالكلية مع الاسلام، وفلسفته التربوية التي تعتبر الانسان في امتحان دائم مع دعوته، وفي اختبار مستمر مع دينه.. والتي تفرض عليه دوام العناية بنفسه، والرقابة لربه، والتعهد لسلوكه، والتنمية لايمانه.
فقلب المؤمن بين اصبعين من أصابع الرحمن، والفتن تعرض على القلوب كالحصير، عوداً عوداً، والمؤمن يخشى دائماً سوء المنقلب، ويسأل الله تعالى حسن الختام..
فالحركة التي تضعف قدرتها التربوية عن متابعة أفرادها:(كلَ أفرادها)، بما يحتاجون اليه من تعهد وتربية، ستُصاب بنيتُها(5).

ثانياً: الغفلةُ عن وضع الفرد المناسب في المكان المناسب
هذه المشكلة تؤدي باستمرار الى فشل العمل، وخسارة العاملين..
والحركةُ الواعية الناضجة هي: الحركة التي تعرف قدرات أفرادها، وميولهم، ومواهبهم، وتعرف نقاط القوة، والغضب عندهم.. ومن خلال ذلك تختار لكل فرد ما يناسب ويتناسب مع قدراته، وميوله، وطبيعته، ومستواه..
فاذا كانت الحركة على غير معرفة دقيقة بمعطيات أفرادها فلن تنجح في اختيار المواقع المناسبة لهم.
وان كانت الحركة لا تعرف ما يحتاجه كل موقع من مواقع العمل، فانها لن تتمكن من ملئه بشكل سليم، وحسن..
واذا تحكمت في عملية الاختيار هذه غير الاعتبارات الموضوعية، اختل التوازن في عموم المعادلة.
فمثلاً.. حين تتخذ الحركة قراراً ما بخوض معركة انتخابية قبل ان تهيء لها أكفاءها، والمؤهلين لتمثيل أفكارها فيها، فانها ستضطر حتماً الى تقديم كفاءات ليست في المستوى، وستكون خاسرة بدون أدنى شك..!!.
وحين تضَّطرُ حركةٌ ما (تحت ضغط الاتساع الافقي لرقعة عملها)، الى تقليد عناصرَ غيرَ مؤهلةٍ مسؤولياتِ القيادة، فانها تكون بذلك قد سلكت طريقاً غير سوي يمكن ان يَضُر بالقاعدة، وبمن انتدب لقيادتها معاً..
وحين لا يخضع العمل لقواعد وأصول مدروسة، ولا يقوم وفق مخططات ومناهج موضوعة..وحين لا يعرف ما ينبغي عمله اليوم، وما يجب تأجيله الى الغد.. وحين لا يفرق بين ما هو مهم، وبين ما هو أهم، ولا تُرَتَّب الأعمالُ وفقَ الأولويات.. عندئذٍ يحدث الخلل، وتضَّطرُ الحركةُ، الى ملء الشواغر، والفراغات بأسماء وليس بأكفاء، فيُوَسَّدُ الأمرُ لغير أهله.. واذا وُسِّد الأمر في الحركة لغير أهله، فانتظر ساعتها..
ان على الحركة، ان تصنف طاقات عناصرها، بحسب اختصاصاتهم ونجاحاتهم..
< ففريقٌ يُفرزُ للشؤونِ التربوية..
< وفريقٌ يُفرز للشؤونِ السياسية..
< وفريقٌ يُفرز للشؤون المالية والاقتصادية..
< وفريقٌ للشؤون الرياضية..
وهكذا في كافَّة الشؤون الأخرى..
ثم ان عليها ان تحدد خطواتها وفق القدرات التي تجمعت عندها في كل جانب.. فان هي فعلت غير ذلك، سيُفلِت الزمامُ من يدها، وستفقِد القدرةَ على التحكم في سيرها، واختيار الشخص المناسب للجانب المناسب في عملها، وعندئذٍ سيكون حالها كحال مركبةٍ تعطل مِقودها، فهي تسير الى المجهول..(6).

ثالثاً: ما ذئبان جائعان اجتمعا.....؟!(7).
هذا العنوان ليس لغزاً، وانما هو مَطلَعُ حديثٍ، يحفظه جُل أبناء الحركة الاسلامية، حديث له دلالته... وله مقتضاه...
وأجدني مدفوعاً بحكم المقام الذي نقومه... والسياق الذي نتبعه... والحال الراهن من واقعنا الانتخابي الذي نغشاه بحكم هذا كله، أذكره مع قبسات تربوية موضحة من شرح الحافظِ ابنِ رجبٍ الحنبليِّ، وَلنَحن أحوجُ الى تلك القبسات ... فاسمع أخي، وأنصت... وعبِّ وانهل... والتزم كلام سيدي وسيدك، وسيد الخلق، سيد المربين، محمد صلى الله عليه وسلم .…
أخرج الامام أحمد، والنسائي، والترمذي، وابن حبان في صحيحه، من حديث كعبِ بن مالكٍ الأنصاري- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:» مَا ذئبان جَائِعَانِ أُرسِلاَ في غَنَمٍ، بأفسَدَ لها مِنْ حِرصِ المرء على المال، والشَّرَف، لدينهِ»(8).
قال ابن رجب: فهذا مثل عظيم جداً ضربه النبيُ صلى الله عليه وسلم، لفساد دين المسلمين بالحرص على المال، والشرف في الدنيا، وانَّ فساد الدين بذلك ليس بدون فسادِ الغنم، بذئبين جائعين ضاريين باتا في الغنم قد غاب عنها رعاؤها ليلاً، فهما يأكلان في الغنم ويفترسان فيها.
ومعلومٌ أنه لا ينجو من الغنم من افساد الذئبين المذكورين، والحالة هذه، الا قليلٌ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم ان حرص المرء على المال، والشرف افسادٌ لدينه، ليس بأقلَ من افساد الذئبين لهذه الغنم، بل اما ان يكون مساوياً واما أكثر، يشيرُ الى أنه لا يسلم من دين المسلم مع حرصه على المال، والشرف في الدنيا، الا قليل، كما أنه لا يسلم من الغنم مع افساد المذكورين فيها، الا قليل.
فهذا المثل العظيم يتضمن غايةَ التحذير من شر الحرص على المال، والشرف في الدينا.وليتنا نعي وننتبه لذلك الحرص المبالغ، وغير المبرر، في ميدان البرلمان...!.

مِن فَهمِ وتعليقِ سلفنا على الحديث:
لسلفنا رضوان الله عليهم على ذلك الحديث تعليمات، وتعليقات، نستل منها في مقامنا هذا... ما يخاطبُ الضمائر، وينبه العقول على خطورة وجلل الحرص، وافساده للمسلمين... قال السلف: فالحريصُ يضيِّع زمانَه الشريف، ويُخاطر بنفسه التي لا قيمة لها في الأسفار وركوب الأخطار، لجمع المال ينتفع به غيرَه كما قيل:
وَمَنْ يُنْفِقِِ الأيَّامَ في جَمْعِ مالِهِ
مَخافَةَ فَقْرٍ فَالذّي فَعَلَ الفَقْرُ
قيل لبعض الحكماء: ان فلاناً جمع مالاً فقال: فهل جمع أياماً ينفقه فيها؟ قال:لا قال: ما جمع شيئاً...!!.
وقالوا: الرزقُ مقسوم، والحريص محروم، ابن آدم! اذا افنيت عمرك في طلب الدنيا، فمتى تطلب الآخرة؟؟
اذا كُنْتَ فِي الدُّنْيا عَنِ الخَيْرِ عاجِزاً
فَما أَنْتَ يَوْمَ القِيامَةِ صانِعُ
وقال ابنُ مسعود رضي الله عنه: اليقين ألا تُرضي الناس بسخط الله، ولا تَحسد أحداً على رزق الله، ولا تلوم أحداً على ما لم يؤتك الله، فان الرزق لا يسوقه حرْصُ حريصٍ، ولا يردُّه كراهة كاره، فان الله بقسْطه جعل الرَوحَ والفرح في اليقين والرضى، وجعل الهمَّ والحُزن في الشك والسخط.
وقال بعض السلف: اذا كان القدر حقاً، فالحرصُ باطلٌ، واذا كان الغدر في الناس طبعاً، فالثقة بكل أحدٍ عجزٌ، واذا كان الموتُ لكل أحد راصداً، فالطمأنينة الى الدنيا حُمْقٌ.
كان عبدالواحد بن زيد يحلف بالله، لَحِرْصُ المرءِ على الدنيا أخوف عليه عندي من أعدى أعدائه.
وكان يقول: يا اخوتاه! لا تَفْطِموا حريصاً على ثروته وسعته في مكسب ولا مال، وانظروا له بعين المَقْت له في اشتغاله اليوم بما يرديه غداً في المعاد، ثم يتكبر.
وكان يقول: الحرْص حرصان، حرص فاجع، وحرص نافع، فأما النافع، فحرص المرء على طاعة الله، واما الحرص الفاجع فحرص المرء على الدنيا.
وكتب بعض الحكماء الى أخ له كان حريصاً على الدنيا: أما بعد، فانك أصبحت حريصاً على الدنيا، تخدمك وهي تخرجك عن نفسها، بالأعراض والأمراضو والآفات، والعلل، كأنك لم تر حريصاً محروماً، ولا زاهداً مرزوقاً، ولا ميتاً، ولا متبلغاً من الدنيا باليسير.
عاتب اعرابي أخاه على الحرص فقال له: يا أخي! أنت طالبٌ، ومطلوب، يطلُبك من لا تفوته، وتطلب ما قد كُفيته، كأنك يا أخي لم تر حريصاً محروماً زاهداً مرزوقاً.
وقال بعضُ الحكماء: أطولُ الناس هماً الحسودُ، واهنؤُهم عيشاً القنوع، وأصبرُهم على الأذى الحريص، وأخفضُهم عيشاً أرفضُهم للدنيا، وأعظمُهم ندامة العالمُ المفرِّط.

الحرص... والامارة... كيف... وأين... ولم؟
وأما حرصُ المرء على الشرف، فهو أشد هلاكاً من الحرص على المال، فانَّ طلب شرف الدنيا، والرفعة فيها والرياسة على الناس، والعلو في الأرض أضرُّ على العبيد من طلب المال، وضرره أعظم، والزهد فيه أصعب، فانَّ المال يُبذل في طلب الرياسة، والشرف.
والحرص على الشرف على قسمين: أحدهما طلب الشرف بالولاية والسلطان والمال، وهذا خطر جداً، وهو في الغالب يمنعُ خيرَ الآخرة، وشرفها وكرامتها وعزها، قال تعالى:» {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (سورة القصص: 83).
وقلَّ من يحرص على رِيَاسة الدنيا يطلب الولايات فيُوفق، بل يُوكل الى نفسه كما قال النبي صلى الله لعيه وسلم لعبدالرحمن بن سمرة رضي الله عنه: «يا عبدالرحمن بن سمرة! لا تسْأل الامارة، فانك ان أُعطيتها من غير مسألة أُعنت عليها، وان أُعطيتها عن مسألة وُكلت اليها»، متفق عليه.
قال بعض السلف: ما حرِص أحدٌ على ولايةٍ فَعَدَل فيها.
وكان يزيدُ بن عبدالله بن وهب من قضاة العدل، والصالحين، وكان يقول: من أحب المال، والشرف، وخاف الدوائرَ لم يعدل فيها.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «انكم ستحرصون على الامارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمتِ المرضعةُ، وبئستِ الفاطمةُ».
وفيه أيضاً عن ابي موسى الاشعري رضي الله عنه ان رجلين قالا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أمِّرنا، قال: «انا لا نولي أمرنا هذا من سأله، ولا من حرص عليه».

أخي سلفنا قد تورعوا عن الفتيا... فهلا تورعت عمَّا هو أخطر منها...؟!
قال الحسنُ: لا يكون حظُّ أحدكم من علمه ان يقول الناس له عالم.
وفي بعض الآثار ان عيسى عليه السلام قال: كيف يكون من أهل العلم من يطلب العلم ليُحدِّث به، ولا يطلبْه ليعملَ به!
وقال بعضُ السلف: بلغنا ان الذي يطلب الأحاديث، ليحدث بها لا يجد ريح الجنة، يعني من ليس له غرض في طلبها الا ان يحدث بها دون العمل بها.
ومن هذا القبيل كراهة السلف الصالح الجرأة على الفتيا، والحرص عليها، والمسارعة اليهاو والاكثار منها.
رُويَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أجرؤُكم على الفِتيا أجرؤُكم على النار» رواه الدارمي وقال علقمةُ: كانوا يقولون: أجرؤكم على الفتيان أقلكم علماً.
وعن البراء قال: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُسئل أحدُهم عن المسألة، ما منهم من رجل الا ودَّ ان أخاه كفاه.
وفي رواية: فيردَّها هذا الى هذا، وهذا الى هذا حتى يرجع الى الأول.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ان الذي يُفتي الناسَ في كل ما يستفتونه لمجنون.
وسُئل عمرَ بنَ عبدالعزيز عن مسألةٍ فقال: ما أنا على الفُتيا بِجَرِىءْ.

يوسف والخزائن (غنيمة – أو مسؤولية):
من جميل ما وقفت عليه في هذا المقام، هذا الفهم الواعي للأستاذ المفكر المنظِّر الامامِ الذي نحسبه شهيداً في سبيل الله، العلَّامة سيد قطب حيثُ قال رحمه الله معقباً على قول يوسفَ عليه السلام للعزيز: {اجعلني على خزائن الأرض اني حفيظ عليم}.
قال سيد قطب رحمه الله: «فانَّه كان حصيفاً في اختيار اللحظة التي يستجاب له فيها لينهض بالواجب المرْهِق الثقيل ذي التبعة الضخمة في أشد أوقات الأزمة، وليكون مسؤولاً عن اطعام شعب كامل، وشعوب كذلك تجاوره طوالَ سبع سنوات، لا زرع فيها، ولا ضرع، فليس هذا غَنْماً يطلبه يوسف لنفسه، فان التكفل باطعام شعب جائع سبع سنوات متوالية لا يقول أحد أنه غنيمة، انما هي تَبِعَة يهرب منها الرجال، لأنها قد تكلفهم رؤوسَهم».
وقد فهم الفقيه الأندلسي أبو بكر الطرطوشي من قول يوسفَ: «أنَّه من جُعل بين يدي ملك لا يعرف قدره، أو أمَّة لا يعرفون، فخاف على نفسه، أو أراد ابراز فضله، جاز له ان ينبههم عن مكانه، وما يُحسنه، دفعاً للشر عن نفسه، أو اظهاراً لفضله، فُيجعل في مكانه».
قال: «وفيه فائدةٌ أخرى: وهو أنَّه ان رأى الأمورَ في يد الخونة، واللصوص ومن لا يؤدي الأمانة، ويعلم من نفسه أداء الأمانة مع الكفاية: جاز له ان ينبه السلطان على أمانته وكفايته. ولهذا قال بعض العلماء من أصحاب الشافعي: من كمل فيه الاجتهاد وشروط القضاء: جاز له ان ينبهَ السلطان على مكانه ويخطُبه خُطبة القضاء.
وقال بعضهم: بل يجب ذلك عليه اذا كان الأمر في يديّ من لا يقوم به»(9).

ونعلق فنقول:
ذلك هو حال يوسفَ الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم، فهو يوسف الصديقُ النبيُ بن نبي الله يقعوب بن نبي الله اسحاقَ بن خليل الله ابراهيمَ، فلنع هذا حدَّ الوعي، ونحن بصدد مسؤوليةٍ جمة، وخطب جسيم يتمثل فيه حصادُ الفكر الاسلامي في ذلك المتقدم... فيُنظرُ الى أين الخَطُو..؟! أهو الى أمانة وتبعة يقوم بحقها، ويرى من نفسه أهليته لها...؟!.
فلا بأس عليه، فليخطو بتلِّطفٍ ويقْظةٍ وأدبٍ اسلاميٍّ، يحمل التعريفَ بنفسه في خطابه، ومداخله، ومخارجه...
وليعلم ان الله مُظهرُ ما في النفس، في اللفتات والنفثات، والكلمات والحركات... فان خيراً فخير وان غيرُ ذلك فلا يلومن الا نفسه.

ومن هنا نهتف !!:

أقدمْ أيها الكُفؤ... ولتكن يوسفَ السنينَ العجاف:
وهنا ننبه على جواز ان يخطب المرء لنفسه خطبة القضاء... والمسؤولية ما دام أهلاً لها، وهذا ما استنبطه علماؤنا من قصةِ يوسفَ السابقة نفسها، ولنسمع معاً الى فهم فقيه الأندلس أبو بكر الطرطوشي من قول يوسف: «انَّ من جُعل بين يدي ملك لا يعرف قدره، أو أمَّة لا يعرفون، فخاف على نفسه، أو أرد ابراز فضله، جازَ له ان ينبههم عن مكانه، وما يحسنه، دفعاً للشر عن نفسه، أو اظهاراً لفضله، فيجعل في مكانه».
قال: «وفيه فائدة أخرى: وهو أنه اذا رأى الأمورَ في يد الخونة، واللصوص ومن لا يؤدي الأمانة، ويعلمُ من نفسه أداء الأمانة مع الكفاية جاز له ان ينبه السلطانَ على أمانته، وكفايته.
ولهذا قال بعض العلماء من أصحاب الشافعي: من كمل فيه الاجتهاد وشروط القضاء: جاز له ان ينبه السلطان على مكانه، ويخطبه، خطبة القضاء.
وقال بعضهم: بل يجب ذلك عليه اذا كان الأمر في يدي من لا يقوم به»(10).

ولينتبه الكُفؤ... ولُيدرك بالأمارات والقرائنِ أنَّه مطلوب لهذا
وهذا أيضاً مستفاد من القصة السابقة، حيث انه لم يطلب ما طلب الا من بعد تعريض ظاهر بتأميره من قبل العزيز، على ما يدل عليه سياق السورة، فان العزيز قال: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} (سورة يوسف: 54).
فطريقةُ الايجاز البلاغي القرآني حذفت ما يفهم ضمناً، فانَّ رسولَ الملك قال ليوسفَ فيما يبدو: ان الملك يدعوك، وقد سمعناه يُفصح عن رغبته في استعمالك وتأمريك، وتأكَّد ذلك ليوسف في الاشارة الواضحة في خطابُ الملك له حين وصفه بالتمكن، والأمانة.

الهوامش:
(1) سورة الملك 19.
(2) انظر السيرة النبوية لابن هشام وانظر المتساقطون على طريق الدعوة ص27، 28.
(3) انظر السابق ص101، 102.
(4) الحديث في الصحيح، وانظر فتحي يكن المتساقطون على طريق الدعوة ص103.
(5) انظر المتساقطون على طريق الدعوة ص53.
(6) السابق ص59، 60.
(7) انظر شرح حديث ما ذئبان جائعان للحافظ ابن رجب الحنبلي ص7 ، 8- تحقيق بدر البدر ط الدار السلفية الكويت د.ت.
(8) قال الترمذي : حديث حسن.
(9) انظر العوائق للاستاذ محمد أحمد الراشد ص98، 99 تفسير الظلال للأستاذ سيد قطب (سورة يوسف).
(10) السابق نفسه.


أخبار ذات صلة dot4line
التعليقات الأخيرة
dot4line
 
مقالات ذات صلة بالكاتب

!function(d, s, id) { var js, fjs = d.getElementsByTagName(s)[0], p = /^http:/.test(d.location) ? 'http' : 'https'; if (!d.getElementById(id)) { js = d.createElement(s); js.id = id; js.src = p + "://platform.twitter.com/widgets.js"; fjs.parentNode.insertBefore(js, fjs); } } (document, "script", "twitter-wjs");
273.0145
 
 
 
إعلن معنا
موقع الوطن الإلكترونية – حقوق الطبع والنشر محفوظة
 
Top