مقالات  
نسخ الرابط
 
   
   
 
  A A A A A
X
dot4line

أنا مع وضد

البهلول والبهللة

د. عبدالله يوسف سهر
2014/11/22   08:44 م

شكرا لتصويت

التقيم التقيم الحالي 0/5
writer image



أنا
كنيته البهلول ووصف على أنه أعقل المجانين، وسلطان المجاذيب، في حين أن اسمه الحقيقي هو أبو وهيب الصيرفي الكوفي الذي عاصر الخلفاء العباسيين واشهرهم هارون الرشيد. وقيل إنه من العلماء والفقهاء في عصره ولكنه تصنع الجنون بعدما نصحه الإمام موسى الكاظم عليه السلام كي ينجو من بطش الحكام ومنهم الرشيد الذي رد على قول الناس بجنون البهلول قائلا: «ما جنّ ولكن فر بدينه منا». وعلى غير المشهور، فإن المعنى الأول لكلمة البهلول هو الكريم والسيد النبيل، وكان هو كذلك ولكنه تظاهر بالخبل والجنون كي ينتقد ويقول ما يشاء مقابل الرضا بهذه المنزلة الوضيعة عند المجتمع. لم يكن البهلول من أولئك الرجال الذين يستطيعون ان يكظموا غيظهم أو يسدلون الستار على ما يرونه خطأ من السلطة لذلك فضل أن يكون في أعين الناس مغفلاً مجنوناً تجسيداً لقول الشاعر:
ولما رأيت الجهل في أعين الناس
فاشيا تجاهلت حتى ظن اني جاهل
فوا عجبا كم يدعي الفضل ناقص
ووا أسفا كم يظهر النقص فاضل

سُردت حول شخصية البهلول قصص وحكايات تقف عند حافة بدايتها السخرية والجنون وتستقر عند نهايتها آيات التعقل والحكم. وقد كتب عن البهلول كثيرا منه ما هو حديث كما وضع الأستاذ صالح ابراهيم الطريقي مقالا صائبا في جريدة عكاظ عنوانه «الفن من البهلول إلى المناضل» يشرح فيه كيف ان الكوميديا السوداء القاصدة للسخرية السياسية أصبحت الأكثر شهرة في الوطن العربي. كما فصل في شخصية البهلول الدكتور علاء الجوادي في دراسة له عنوانها «البهلول... عارف في ديار الجاهلين». وقد دون المؤرخون سجالاً بين البهلول وهارون الرشيد تتحدث عن تلك الكوميديا السوداء حيث يحترب كل من جبروت السلطة وعقل المستضعف فتبلج من تخالطهم قصة يرويها الزمن لتبين وتثبت حقيقة الغالب وهوية المغلوب. ومن نافلة تلك الروايات ان البهلول جلس ذات يوم على عرش الرشيد فقام الحجاب والوجهاء والحراس بضربه بشكل مبرح فصار البهلول يصيح ويبكي، فلما رآه الرشيد على ذلك الحال عاتبهم وأخذ يطيب خاطره ومناشدا اياه ألا يبكي فقال البهلول أنا لا أبكي من الضرب ولكن أبكي عليك! فقال الرشيد له لماذا؟ فرد البهلول قائلا إني قد جلست على عرشك برهة وجيزة فضربت هكذا فكيف بك وأنت قد جلست مدة طويلة»!!! وفي مواجهة أخرى تضمر في بوتقتها غلبة الحكمة على السيف حيث قال الرشيد له: ألك حاجة فأقضيها، قال بهلول: نعم ثلاث حاجات، ان قضيتها شكرتك.قال: فأطلب، قال: ان تزيد في عمري !! قال: لا أقدر، قال: إن تحميني من ملك الموت!! قال: لا أقدر، قال: ان تدخلني الجنة وتبعدني عن النار!! قال: لا أقدر، قال: فأعلم انك مملوك ولست ملكاً، ولا حاجة لي عندك!!!
لست بصدد تدوين قصص البهلول الحكيم، وإنما ما أرمي له هو الإشارة إلى أن في كل زمن بهلولا أو مجموعة من البهاليل يحكي التاريخ قصصهم المضحكة، والتي تحمل حكماً في مواجهة حاكم، أما في عصرنا الحالي وخاصة في محيطنا العربي أو لنقل مجازاً عالمنا الإسلامي فلقد انقلبت الآيات وتداخلت البهللة على نحو معقد يصعب فهمها، وبالتالي تسجيل روايات متناقضة من حيث صعوبة معرفة من هو البهلول ومن هو «المباهل». في عالم كثر فيه الجنون السياسي وأصبح الكثير ممن يوصفون بالسياسيين من البهاليل أصبح العقل المغلوب على أمره هو الطاغية! هذا من جهة. ومن ناحية أخرى، تجد أن الكثير من الشباب اليافع والناقم قد اتخذ السخرية سبيلا له لتقديم مشاركته السياسية على بساط التواصل الإلكتروني السحري الذي ينقله من محيطه الصغير إلى عالم واسع يهيم به العامة وذلك عبر ضغطة على زر منعدم الوجود. لقد هتكت الحكومات الحريات وهجرت العلماء وسجنت الأدباء والنقاد وأخرست المعارضين وأرهبت المترددين وأغوت الكثير من الكتَّاب وابتاعت لها جوقة من الإعلاميين.. فماذا عساها ستفعل مع معشر البهاليل المنتظرين لدورهم في مسرح الكوميديا السياسية المكتظ بالمجانين؟ فليس على المجنون حرج، أليس هكذا!!! وهكذا هو الحال بالنسبة للحكومات الطامحة لحكم مستقر مستنير، فإنها تواجهه مجموعة من البهاليل الفعليين وليس المتظاهرين الذين يصنعون لأنفسهم أمجاد وألقاب المجاهدين ويضعون على صدورهم نياشين المناضلين... مشكلة هؤلاء انهم يمارسون البهللة وهم يحسبون أنفسهم يحسنون صنعا كقادة المجتمعات ونبلائها في حين انهم أكثر الناس جهلا وخبلا وجنونا... كما قال عز وجل {ولكن أكثرهم لا يعلمون} {ولكن أكثرهم يجهلون}.

مع

نحن شعوب نعشق الضحك على أنفسنا، ألم تنته معظم مآسينا وملاحمنا وهزائمنا بمسرحيات مثل «حكم قراقوش» لنجيب الريحاني، و«كأسك يا وطن» لدريد لحام، و«الزعيم» لعادل أمام، و«المناخ»، و«سيف العرب» لعبد الحسين عبدالرضا، و«حامي الديار» للثنائي المرحوم خالد النفيسي وسعد الفرج. نحن نعيش في مسرح سياسي مليء بالبهاليل... إنه عصر البهللة.

ضد

الضحك والبكاء خاصتان بالإنسان، وعلى الرغم من تناقضهما إلا أنهما يتشابهان في العديد من المواضع فكلاهما ينتج دمعاً وكلاهما يصدر منه صوت وكلاهما يظهر بسبب موقف وكلاهما يجتمعان عند بداية السياسة ونهايتها، وفي هذه الأخيرة يكون البهلول حاضراً كي يزرع موقفاً يحصد فحواه الضاحكون والباكون معاً وشتان ما بين الاثنين.


د.عبدالله يوسف سهر
sahar@alwatan.com.kw
أخبار ذات صلة dot4line
التعليقات الأخيرة
dot4line
 

!function(d, s, id) { var js, fjs = d.getElementsByTagName(s)[0], p = /^http:/.test(d.location) ? 'http' : 'https'; if (!d.getElementById(id)) { js = d.createElement(s); js.id = id; js.src = p + "://platform.twitter.com/widgets.js"; fjs.parentNode.insertBefore(js, fjs); } } (document, "script", "twitter-wjs");
694.0082
 
 
 
إعلن معنا
موقع الوطن الإلكترونية – حقوق الطبع والنشر محفوظة
 
Top