الخميس
16/04/1447 هـ
الموافق
09/10/2025 م
الساعة
08:37
إجعل kuwait.tt صفحتك الرئيسية
توقيت الصلاة
الظهر 11:35
الصفحة الرئيسية
إغـلاق الوطـن
محــليــات
مجلس الأمة
الجيل الجديد
أخبار مصر
أمن ومحاكم
الاقتصاد
خارجيات
الرياضة
مقالات
فنون
المرأة
منوعات
الوفيات
اتصل بنا
منوعات
A
A
A
A
A
http://alwatan.kuwait.tt/articledetails.aspx?id=393283&yearquarter=20144&utm_source=website_desktop&utm_medium=copy&utm_campaign=articleshare
X
الأزمنة والأمكنة
2014/10/21
06:55 م
شكرا لتصويت
التقيم
التقيم الحالي 5/0
العلامة الشيخ محمد بن سليمان الجراح
هذا مقال قد يجد فيه من يقرؤه كثيراً من الأمور الشخصية. وهي أمور لابد من ذكرها ونحن نتحدث عن هذا الرجل العالم الجليل الشيخ محمد سليمان الجراح. ولما كان من يدور حوله مقالنا هذا هو خالي، فإنني لا يمكن أن أتجاوز الحديث عن كثير من الأمور التي أعرفها عنه منذ وعيت.
ولدتُ في بيت أخوالي. وكانت هذه عادة النساء في الماضي فإنهن إذا أحسسن بدنو الولادة ذهبن إلى بيوت أهلهن لكي يضعن حملهن هناك، ويبقين معهم إلى أن تنتهي فترة النفاس وقدرها أربعون يوما.
وهكذا ولدت هناك ونشأت في أحضان ذلك البيت الكريم. وعندما كبرت جالست أخوالي واستمعت منهم، واستفدت من علمهم وأدبهم. وبعد ذلك بفترة يسيرة ناداني الخال محمد – رحمه الله – وأعطاني ورقة صغيرة مكتوبة بخط يده الذي أعرفه جيدا لكثرة ما قرأت له من كتابات، وعندما فتحت الورقة وجدت فيها أنها مكتوبة في يوم مولدي، وقد ذكر الخال اليوم والوقت والتاريخ الكامل لذلك اليوم.
عرفت من ذلك أنه كان مهتما بي منذ اليوم الأول لولادتي، وهذا الأمر قد تبين فيما بعد في حرصه على دراستي ومتابعتي لتحصيل العلم وبخاصة العلم الشرعي وعلوم اللغة العربية، فكان يدرسني باستمرار دروساً لا أحصل عليها في المدرسة، وقد كان من ضمن اهتمامه أن تفرغ لي بعد عصر كل يوم فاستفدت كثيراً منه في هذا المجال.
كان الخال محمد حريصا على تلقي العلم منذ كان يافعا وقد كان من أساتذته رجل أجمعت الكويت على احترامه والاعتراف بفضله وبعلمه وهو الشيخ عبدالله الخلف الدحيان. فكان يذهب إليه مع أخويه داود وإبراهيم ومجموعة أخرى من شباب ذلك اليوم الذين أحبوا هذا النوع من الدراسة فاستفادوا جميعا مما قدمه لهم الشيخ عبدالله الخلف أعظم استفادة. وقد غرست هذه الدروس في نفس الشيخ محمد سليمان الجراح الرغبة في نشر العلم بين الناس فصار لا يرد طالب علم، ويسعدني أن أقول إنني كنت أول طلابه.
دعاني إليه في إحدى الأمسيات فقال: لقد طلب مني اثنان من محبي دراسة العلم الشرعي أن أقدم لهما دروسا في كتاب من كتب الفقه هو كتاب دليل الطالب للشيخ مرعي بن يوسف وقد وافقت على ذلك، وأرغب في أن تكون معنا لكي تستفيد، وبخاصة أن هذا الكتاب مقرر عليك في معهد الكويت الديني.. ولقد سعدت بهذه الدعوة وباشرت حضور الدرس بعد صلاة العشاء من كل يوم.
كان الخال – يومذاك – إماما في مسجد العثمان المزال حاليا، وكنا نذهب إليه هناك فنصلي خلفه ثم نجلس إليه من أجل الدراسة، وقد مضت الأمور على هذه الحال فترة من الزمن إلى أن تغير موضعه فانتقل إلى مسجد سعيد الواقع بالقرب من فريج السبت في حي القبلة.
(ملاحظة: تبرعت عائلة العثمان الكريمة ببناء مسجد كبير بدلا من المسجد القديم المزال، وهو الآن قائم على ساحل الخليج العربي بين مبنى مجلس الأمة ومتحف الكويت الوطني، وكانت هذه المنطقة في حاجة إلى مثله).
هذا وقد كان الشيخ محمد سليمان الجراح مواظباً على القيام بعمله إماما في هذا المسجد، (أقصد مسجد العثمان) وكان بالإضافة إلى ذلك يقدم للحاضرين دروسا أسبوعية موعدها مساء يوم الإثنين من كل أسبوع. ومما أذكره هنا أنه أراد أن يدربني على إلقاء الأحاديث فتعلل بأنه مريض، وأنه سوف لا يستطيع أن يقدم حديثا ذلك اليوم، ولذا فقد كلفني بالقيام بإلقاء الدرس. وكانت هذه أول مرة ألقي فيها درسا أمام الناس، كانت سنِّي – آنذاك – صغيرة بالنسبة للحاضرين. ولكنني بتشجيع منه استطعت أن أؤدي المهمة وأن أنال رضا خالي في تلك الليلة.
كان له أسلوب راق عندما يكتب. ومما لا أنساه له هذه الرسالة التي بعث بها إليَّ وأنا في مصر للدراسة في سنة 1958م، وفيها ينعى والدتي رحمها الله. وقد بدأ كتابته بالحكم والآثار التي فيها حث على الصبر، ومجابهة المكاره بذكر الله تعالى. وكنت قد نشرت رسالته هذه في كتابي: «همس الذكريات» ولكنني لا أجد ما يمنع إعادتها هنا حتى تكون قريبة من عين القارئ وذهنه.
كانت البداية كالتالي:
«هذا وغير خاف عليكم أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد وهو ماهية مركبة من صبر وشكر وهو ثلاثة أنواع صبر على فرائض الله فلا يضيعها، وصبر عن محارم الله فلا يرتكبها، وصبر على أقضيته وأقداره فلا يتسخطها، ومن استكمل هذه المراتب الثلاث استكمل الصبر ولذة الدنيا والآخرة ونعيمهما والفوز والظفر فيهما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «خير عيش أدركناه بالصبر»، وإذا تأملت مراتب الكمال المكتسب في العالم رأيتها كلها منوطة بالصبر وإذا تأملت النقصان الذي يُذمُّ صاحبه عليه ويدخل تحت قدرته، رأيته كله من عدم الصبر فالشجاعة والعفة والدنيا كلها صبر ساعة وأكثر أسقام البدن والقلب إنما تنشأ من عدم الصبر فما حُفِظت صحة القلوب والأبدان والأرواح بمثل الصبر فهو الفاروق الأكبر والترياق الأعظم.
فالصبر طِلَّسم على كنز العلا
من حل ذا الطِّلَّسم فاز بكنزه
ولو لم يكن فيه إلا معية الله مع أهله فإن الله مع الصابرين ومحبته لهم فإن الله يحب الصابرين، ونصره لأهله فإن النصر مع الصبر، وأنه خير لأهله ولئن صبرتم لهو خير للصابرين وأنه سبب الفلاح يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون».
وعندما انتهى من كل ذلك قال: إذا علمت ذلك فإنَّا نرفع إليك التعزية بوالدتك المرحومة بكرم الله تعالى فقد توفيت فجر الأربعاء 21 هذا الشهر أعظم الله أجرك وأحسن عزاك وغفر لها وأكرم نزلها وعليك بالصبر فإنها لم تمت حتى استكملت رزقها وأجلها وقد استراحت من عناء الحياة ونصبها وأوصاب الدنيا وتعبها وفي قول الله تعالى {إنا لله وإنا إليه راجعون} ما يرجع بالمؤمن إلى الصبر والتسليم والرضا بأقدار العزيز الحكيم وقد بشر قائليها الذين صبروا بالصلاة والرحمة والاهتداء، ومن نعم الله عليكم توفيقكم لبرها وكونها توفيت راضية عنكم تمام الرضا ولولا أن التعزية سنة مندوب إليها ما كتبت إليك بهذا علماً بأنك والحمدلله ممن تلقَّى المصاب بالصبر، والاحتساب، تغمدها الله برحمته، واسكنها فسيح جنته، وجمعنا بها وسائر أحبابنا في دار المقامة بمنه وكرمه».
ولقد أحسست – يومذاك – بالحسرة لفراق والدتي وأنا بعيد عنها ولم يرحني من آلامي إلا هذا الأسلوب الشيق، وهذه الحكم البليغة التي قدمها الخال قبل أن يبدأ بسرد الخبر المحزن.
٭٭٭
يقع مسجد السهول الذي انتهت إليه الإمامة فيه، في القطعة الرابعة من ضاحية عبدالله السالم، على شارع سيد علي سيد الرفاعي.
وكان قد بني قديماً، في فترة لم تكن قد نُظِّمت المنطقة فيها وقد تخلخل بنيانه مما دعا إلى إعادة البناء فنهض بذلك السيد سليمان جاسم السهلي وتم تجديد بنائه – مرة أخرى – بجهد السيد علي اليوسف الرشيد، وبتبرع منه في سنة 1974م.
تخرج في هذا المسجد عدد لا بأس به من طلاب العلم الشرعي، ولقد برز منهم – على الأقل – ثلاثة هم اليوم يُعدُّون من العلماء، وهم – أيضاً – من الذين يواصلون رسالة شيخهم فيتولون التدريس في المسجد وفق ما كان يسير عليه الشيخ محمد الجراح إضافة إلى ما يقومون به من أعمال بحثية مهمة. وهؤلاء الثلاثة هم:
-1 الشيخ الدكتور وليد عبدالله المنيس. أحد الذين كانوا من المواظبين على حضور الدرس على يد الشيخ محمد سليمان الجراح، وكان من التلامذة المخلصين له، السائرين على دربه، وهو الآن إمام وخطيب يوم الجمعة في مسجد المطير. كما إنه يعمل أستاذاً في جامعة الكويت. وهو مواظب على متابعة جلسات الدرس في مسجد السهول. ولا تزال هذه الجلسات تستقطب الطلاب الجدد.
-2 الشيخ فيصل يوسف العلي وهو خِرِّيج الأزهر الشريف بالإضافة إلى دراسته على يد الشيخ محمد الجراح. وهو سائر على الطريق الذي سلكه منذ التحق بدروس مسجد السهول حتى صار الآن من أعلام هذه الدراسة المباركة. وإلى جانب ذلك فهو رئيس تحرير مجلة الوعي الإسلامي الكويتية التي تصدرها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
وقد نهض بها نهضة عظيمة منذ تولي هذا العمل حتى صارت من أهم المجلات الإسلامية في الوقت الحاضر.
-3 ياسر إبراهيم المزروعي، وهو عالم بالقراءات يُدعَى من خارج الكويت لكي يلقي محاضرات بهذا الشأن، وهو حاصل على الدكتوراه في علم القراءات، وله مؤلفات عديدة. أوصى الشيخ محمد سليمان الجراح بأن يتولى الدكتور ياسر الصلاة نيابة عنه في مسجد السهول، كما أوصى بأن يتولى خطبة الجمعة في مسجد المطير للدكتور وليد المنيس.
تكاثر الذين يحسدون الدكتور المزروعي على ما ناله من علم ومن مكانة عالية على الرغم من أنه في بداية سن الشباب، فكادوا له في عمله بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ولكن الله رد كيدهم إلى نحورهم، وظهر بعد ذلك شريفاً ناصع الصحيفة على الرغم من كيدهم له بالباطل.
وهناك إخوة كثيرون، ينبغي ذكرهم عندما نتحدث عن هؤلاء التلاميذ النجباء الذين لازموا الشيخ محمد سليمان الجراح، فهناك الشيخ عدنان سالم النهام وأخوه الدكتور صالح سالم النهام، والشيخ جاسم الفهيد، وآخرون كثيرون ثبتهم الله على دينه وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم.
ولقد تميز هؤلاء – جميعاً – بميزات صالحة غرستها فيهم دراستهم الشرعية. والقدوة الحسنة التي وجدوا شيخهم عليها، ونذكر ممَّا تميزوا به ما يلي:
- التمسك بالعقيدة السليمة.
- البعد عن الغلو في الدين.
- اتباع طريق السلف الصالح من متقدمي هذه الأمة دون تصنيف، كما يقوم بذلك من يدَّعون السلفية في الوقت الحاضر، أو من يدعون الوسطية دون أن يقدموا وصفاً دقيقاً قاطعاً لهذه الوسطية.
- التمسك بالكتاب والسنة وعدم الخروج عنهما.
- عدم المنازعة في الحق.
- الدعوة إلى التسامح، وإلى الإصلاح بين الناس.
- عدم التدخل في الأمور التي لا شأن لهم بها.
- لا ينازعون الأمر أهله، كما جاء في الحديث الشريف.
على خلاف ما يفعل الخوارج في يومنا هذا.
عندما بدأ الشيخ محمد سليمان الجراح بالصلاة في مسجد السهول بضاحية عبدالله السالم. انقطع عن كل شيء إلا العلم والتعليم، فهو يقرأ، ويبحث ويعلم عدداً من الشبان الذين التفوا من حوله.
تبدأ الدروس بعد صلاة المغرب، وتنقطع عند صلاة العشاء لتعود مرة أخرى بعد انتهائها. وكان قد قسم طلابه على حلقات، تولى كل واحد من الذين اختارهم وعرف أنهم قد حصلوا من العلم ما يُمكّنهم من تدريس المستجدين من زملائهم. وكان يجلس على مقعد مخصص له يتابع منه ما يجري في الحلقات، ويستمع إلى الأسئلة ويرد عليها. ويستقبل عدداً من الناس الذين يأتون طلباً لفتوى، أو أملا في رُقية.
ولم يكن يخرج من المسجد إلا قليلاً، ولكنه يذهب وقت صلاة الجمعة لكي يؤديها إماما وخطيباً في مسجد المطير بالمنطقة ذاتها.
لقد اشتهر عنه ذلك، وعرف مقدار علمه في الكويت وفي خارجها. ولما كان يُبجِّل العلماء فقد كان العلماء يبجلُونه هو الآخر لما لمسوه فيه من تجرد، وحرص على كسب العلم، وبعد عن المظاهر المادية التي تأثر بها غيره. أذكر أنني في أحد أيام الجمع، وكان شيخنا الأستاذ محمود محمد شاكر بيننا في الكويت، فذهبت به إلى المسجد الذي يُصلِّي فيه الخال. وبعد الصلاة وقفنا وسلمت عليه، وقدمت إليه شيخي أبا فهر. فوجدته يرحب به ترحيباً كبيراً، ثم يثني على أخيه الشيخ أحمد محمد شاكر، ويقول إنني قرأت له كتابه في اختصار تفسير ابن كثير فكان كتابا مهماً رضي الله عنه.
ولما كنا قد تكلمنا عن الخال في حضور الأستاذ محمود شاكر، فإنه كان مُتَصَوِّراً لحاله، ولذا فقد قال إن هذا رجل من رجال الرعيل الأول من المسلمين الذين حفظوا الدين فحفظهم الله.
وبهذه المناسبة أذكر زيارة أخرى قام بها أحد العلماء الأجلاء وهو الشيخ عبدالفتاح محمد أبو غدة، الذي جاء بدعوة من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية على قلة ما تدعو هذه الوزارة من رجال العلم المتجردين له البعيدين عن حب المادة.
وعندما جاء هذا الشيخ إلى الكويت طلب من مرافقيه أن يزور الشيخ محمد الجراح، وقال إنني سمعت عنه أموراً تدل على مقامه وعلى علمه، وإنني حريص على أن أتلقى عنه درساً في الفقه الحنبلي. وجاء هذا العالم الكبير إلى مسجد السهول وكان الخال قد سمع به فهو رجل لا يخفى على من يطلب العلم. فرحب به. وجلس على مقعده المعتاد فقال الشيخ عبدالفتاح: لقد أتيت إليك راجياً أن تجيبني على بعض المسائل في الفقه الحنبلي. فاعتبرني تلميذك في هذه الحالة. فرد الخال قائلاً – كعادته في التواضع – ما أنا إلا طالب علم فلن تجد عندي الكثير مما تأمل، ولكنني على أتم الاستعداد – أيضاً – للإجابة.
وبدأ الضيف يسأل. وكانت أسئلة متعددة تدل على الرغبة بالمعرفة، والحرص على الإلمام بالموضوعات التي تضمنتها تلك الأسئلة. ولم يتوقف الشيخان عن الأسئلة والأجوبة حتى نال الضيف كل ما يريد من ذلك.
وهنا قام الشيخ محمد سليمان الجراح من على مقعده ودعا الشيخ الزائر إلى الجلوس على ذلك المقعد قائلاً، أنت الآن في دور المدرس، وأنا في دور طالب العلم، فاجلس على المقعد واسمح لي بأن أوجه إليك بعد الأسئلة في الفقه الحنفي الذي تجيده، وتسير على نهجه.
هنا تردد الشيخ عبدالفتاح وقال إنك تستطيع أن تسألني وأنا في مكاني. فرد عليه الخال قائلاً: لا يجوز أن أجلس على هذا المقعد وأنا تلميذ يسأل أستاذه، وأبى أن يبدأ بذكر أسئلته إلى أن قام الضيف من مكانه وجلس على المقعد، ثم جلس الشيخ محمد سليمان الجراح على الأرض أمامه، وبدأ بينهما السؤال والجواب إلى النهاية.
هذا دليل ساطع على أنه كان – رحمه الله – يُبجِّل العلماء، وأنهم كانوا يُبجلونه، لما يجدون عنده من علم وفير استطاع أن يحصل عليه طوال سنين عديدة بالاطلاع والتلقي عن العلماء، وبالمناقشات والمحاورات، والمراسلات.
ومما يمكن أن أضيفه إلى ما تقدم، أمر يدل على علاقاته بعلماء الكويت الذين عاصرهم وقد تحدثت في كتاب «همس الذكريات» عن شيء يدل على ذلك حين قلت:
«واستفادتي من بيت أخوالي آل جراح كبيرة جداً فهو بيت علم، فيه الفقيه محمد، والشاعر المتتبع لتاريخ الأمة الإسلامية إبراهيم، والشاعر الذواقة داود، وكنت طالما وجدتهم يتحاورون في مسألة من مسائل الفقه أو النحو أو التاريخ فاستفدت مما أسمع كثيراً، وكنت استفيد ممن يغشى ديوانيتهم التي كانت تفتح كل يوم، وأذكر من تلك الجلسات ما خُصِّص لبحث مسألة فقهية أثارها قرار دائرة الأوقاف آنذاك بالتوسع في نشر الجوامع من أجل صلاة الجمعة، وزيادتها عن حالتها التي كانت عليها، وقد طُلِبَ إلى خالي إمام مسجد العثمان في ذلك الوقت أن يخطب الجمعة، ولكنه لم يجد الأمر سليماً، فرد على الأوقاف بعدم موافقته على ذلك لأنه لا يجوز - فقهاً – تعدد المساجد في صلاة الجمعة لغير حاجة، ولم تكن الحاجة ماسة إلى هذا القرار في حينه.
ولقد كان جمع كريم من علماء الكويت يجتمعون مساء كل يوم في ديوانية الأخوال لبحث هذا الأمر، وتتبع رسائل خالي ورد الأوقاف عليها، وكان الذي يتولى الرد عن تلك الدائرة الشيخ عبدالعزيز حمادة بصفته عضواً في مجلس الأوقاف، وبحسب ما عرفت فإن هذه المراسلات كانت ذات محتوى علمي مهم، ومتابعوها كانوا على مستوى من المعرفة الدينية الكبيرة أذكر منهم الشيخ أحمد الخميس، والشيخ عبدالوهاب عبدالرحمن الفارس والشيخ عبدالوهاب عبدالله الفارس وقد أسعدني الحظ بجلوسي بينهم طوال الفترة التي دارت فيها تلك المناقشات الفقهية حول هذا الموضوع.
٭٭٭
ولقد حان الآن وقت الحديث عن آثاره العلمية، ولعل من أهمها هؤلاء الشباب الذين درسوا العلم الديني على يديه، وتحلوا بعاداته الطيبة، وصاروا علماء بفضل مواصلتهم الحضور إلى حلقات الدرس التي يعقدها في مسجد السهول، ثم إن من آثاره مراسلاته الكثيرة مع علماء عصره وتبادل العلم معهم عن طريق المراسلات وكان منهم الشيخ عبدالرحمن بن سعدي والشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ عبدالله بن حميد والشيخ محمد بن ابراهيم آل الشيخ، وغيرهم...
إضافة إلى ذلك فإنه قد كتب فوائد فقهية سطرها على هوامش بعض كتب الفقه، وكذلك العدد الوفير من فتاواه في عدة مسائل مهمة.
ومن آثاره المطبوعة:
-1 منسك مختصر في الحج.
-2 سلاح الناسك في أدعية المناسك.
-3 كفاية الناسك لأداء المناسك.
-4 ورد مختصر من كلام الله تعالى وكلام سيد البشر.
وهو دعاء مفيد بمثابة الرقية، ويمكن أن يقرأ على كل محتاج أو مهموم. وأعلم أن كثيراً من الناس قد استفادوا من هذا الورد ولذا فقد تكرر طبعه لعشرات المرات، ووزع مجاناً على كل من يطلبه.
هذا إضافة إلى خطبه التي جمعت الآن وطبعت بعناية الدكتور وليد المنيس وفيها كثير من العلم والحكمة.
٭٭٭
ينبغي أن نشير هنا إلى أمر مهم يتعلق بموضوعنا هذا، وهو أن الدكتور وليد المنيس وقد تولى إمامة الصلاة والخطبة في يوم الجمعة بناء على وصية شيخه، فإنه استهل أول جمعة يخطب فيها بعد الوفاة بذكر الشيخ والثناء عليه، وتبيين مآثره، ولا بأس في أن نُقَدم كامل تلك الخطبة التي جاء فيها بعد الديباجة المعتادة في خطب الجمعة ما يلي:
أما بعد، فيا عباد الله، اعلموا أن الدنيا دار محن وآفات، وفتن وأخطار ومخافات، كثيرٌ بطشها مُنغص عيشها ما أَصَحَّتْ إلا أعلت، ولا أقبلت إلا وأَدبرت ولا صفت إلا أكدرت، ولا أضحكت إلا وأبكت، فاصبروا على ما يصيبكم من مُر القضا، ولا تكونوا من المعتدين، واعلموا ان المؤمن مأمور عند المصائب بأن يصبر ويُسلم، ويتلقى القضاء بالقبول والرضا والتسليم ظاهراً وباطناً، والصبر واجب باتفاق العلماء، وأعلى من ذلك أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله عليه حيث جعلها سبباً لتكفير خطاياه، ورفع درجاته وأنابته إلى الله، والجزع لا يردُ الفائت ولكن يسر الشامت، وقد تجرع الأكابر غصص الصبر عند المصائب، خشية العذاب، ورجاء الثواب، رُوي أنه لما أُسيل دم عثمان على وجهه عند قتله، قال لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، اللهم إني أستعينك على جميع أموري وأسألك الصبر على ما ابتليتني.
وإن من أعظم المصائب موت العلماء فإن موتهم خسارة في العلم وثلمة في الدين، ورزية للإسلام والمسلمين، وأن موت علامة الكويت وفقيهها وفرضيها شيخنا محمد بن سليمان الجراح رحمه الله من صنف هذه المصائب التي نسأل الله أن يلهمنا وإياكم عليها الصبر والسلوان وإنا لله وإنا إليه راجعون، كان رحمه الله محباً للعلم، باذلاً في سبيل تحصيله وتوصيله في صحته ودقته، فأمضى عمره ما بين إمامة وخطابة، ودروس فقه وتعليم فرائض، وإفتاء واستفتاء، وأمر بمعروف ونهي عن منكر وإرشاد وعبادة وتهجد، وكان غزير العلم ومن الراسخين المتبحرين في الفقه والفرائض، وكان شديد التواضع مبغضاً للشهرة محباً لخمول الذكر، صبوراً على البلاء، كريم الأخلاق، شاكراً على النعماء، آخذا بالسنة في كافة أحواله، فرحمه الله رحمة واسعة، وتغمده الله بواسع رحمته وأباحه دار كرامته، وأحله عنده في مقعد صدق، ونفع بعلومه الخلق، وكتبه في المهديين، وجعل كتابه في عليين، وأخلف على أهله وطلبته ومحبيه في الآخرين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، جاء في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه في فضل العلماء: «ان العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب وأن العلماء ورثة الأنبياء».
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً، اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسُئلوا فافتوا بغير علم فضلوا وأضلوا، متفق عليه».
٭٭٭
هكذا ينتهي مقالنا الذي خصصناه للتذكير بالشيخ محمد سليمان الجراح. وقد وجدنا أن حديثنا لم يخل من الخصوصيات وأَنَّي له أن يخلوا إذا كان المرء يكتب عن خاله. ولكنني استطردت كثيراً فيما يتعلق بتاريخ حياته، وأسلوبه في الدرس والتحصيل وأسلوبه في التدريس وتكوين الرجال الذين يعتمد عليهم في مجال الدعوة إلى الله بأسلوب متزن وفق ما أشرنا إليهم عندما وصفناهم ولم ننس علاقاته الداخلية والخارجية التي لم تكن إلا طرقاً تؤدي إلى المعرفة، والتمكن من العلم.
هذا هو الشيخ محمد سليمان الجراح رحمه الله وجزاه خير الجزاء عن كل ما قدم.
ولابد وأن نشير هنا إلى شيء من السيرة الذاتية للشيخ عبدالفتاح محمد أبو غدة.
وهو عالم كبير الشأن من مواليد سنة 1918م في مدينة حلب السورية. ونشأ بها وأتم دراسته الثانوية في إحدى مدارسها، ثم انتقل إلى القاهرة فدرس بكلية الشريعة بالأزهر الشريف، وتخرج في هذه الكلية سنة 1948م. ثم حصل على شهادة في أصول التدريس من كلية اللغة العربية سنة 1950م، وعاد بعد ذلك إلى وطنه حيث تولى التدريس لمدة احدى عشر سنة. وفي سنة 1962م كان عضواً في المجلس النيابي السوري. ثم درس في كلية الشريعة بجامعة دمشق ثم عمل بالتدريس في المملكة العربية السعودية لمدة طويلة.
له مؤلفات تقرب من الستين كتاباً يدور أكثرها حول الحديث النبوي الشريف. وقد توفي بالمدينة المنورة في سنة 1997م ودفن بالبقيع هناك.
لقد نشأ محباً للعلم الشرعي، وأمضى حياته معلماً له، وتوفي ودفن في أشرف البقاع رحمه الله.
٭٭٭
أما الشيخ محمد بن سليمان الجراح فإنه بعد معاناة شديدة للمرض، ودخول إلى المستشفى مرتين، فاضت روحه الكريمة في فجر يوم الخميس الثالث عشر من شهر جمادي الأول لسنة 1417هـ، (1996/9/26).
ثم جَرى دفنه رحمه الله بعد صلاة العصر في مقبرة الصليبيخات. وكان في تشييعه جمع غفير من طلاب العلم والأهالي بحيث امتلأ بهم المكان وكان أكثرهم يبكي لهذا الحادث الجلل، واستمرت الصلاة عليه أمام قبرة، إلى وقت المغرب، لأن البعض لم يستطع أن يباشر الصلاة عليه قبل الدفن، وبقدر ما كان متواضعاً فقد كانت جنازته مهيبة وهو الذي يقول عن نفسه.
«وبعد، فإني طالب علم مقصر، محب للعلم ولست بفقيه الكويت ولا فرضيَّها، وما قيل فيَّ من الإطراء فأنا بريء منه، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واغفر لي مالا يعلمون، واجعلني خيراً مما يظنون».
هكذا، ولكنه في الواقع عالم واسع العلم، وكانت درايته في علم المواريث (الفرائض) لا حد لها. ونعلم أن الناس تأتي إليه حين يشق عليهم العثور علي من يقوم بتقسيم ميراثهم.
كانت وفاة الشيخ محمد سليمان الجراح مثار حُزْنٍ للجميع، فسارع الخطباء والشعراء والكتاب إلى رثائه. وكانت أول مرئية شعرية له هي التي كتبها شقيقه الشيخ إبراهيم سليمان الجراح التي كان مطلعها كما يلي:
ما كنت أحسب أن تطول حياتي
حتى أراك سبقتني بممات
ثم رثاهُ الشاعر عبداللطيف عبدالرزاق الديين فقال من قصيدته:
أبا الجراح قد أحدثت ثلما
بصرح العلم وانثلم الجدار
فقدنا منك في الحلقات علماً
ينير طريق من جهلوا وحاروا
به خلَّدت للأجيال ذكراً
طوال الدهر ما طلع النهار
ورثاه الشيخ أحمد غنام الرشيد بمرثيتين من قصائده. والأستاذ جاسم الفهيد والأستاذ حاكم المطيري. وغيرهم…
وهذا بخلاف المقالات التي تم تدبيجها في رثائه، والحلقات التي عقدت لهذا الغرض.
وقام الدكتور وليد عبدالله المنيس بتأليف كتاب عن الشيخ محمد سليمان الجراح، صدر في سنة 1998م، وطبع مرة أخرى في سنة 2005م. ونشره مركز البحوث والدراسات الكويتية، وصدره رئيس المركز أ.د.عبدالله يوسف الغنيم، وكان عنوان الكتاب «علامة الكويت وفقيهها وفرضيها الشيخ محمد ابن سليمان الجراح، سيرته ومراسلاته وآثاره العلمية».
هذا ومما يذكر أنه قد رثي في جلسة من جلسات مجلس الأمة. وتعاقب الأعضاء على ذكره والإشادة به، ولم يتأخر واحد منهم عن ذلك رحمه الله.
أخبار ذات صلة
الأزمنة والأمكنة
التعليقات الأخيرة
All Comments
Please enable JavaScript to view the
comments powered by Disqus.
comments powered by
Disqus
أكثر المواضيع مشاهدة
«التمييز» ترفض وقف تنفيذ إغلاق «الوطن»
فيديو - العصفور: التزمنا بالقرار الإداري لـ«الإعلام» وأدعو الجميع لمشاهدة افتتاحية قناة «المجلس»
أماني بورسلي: كنا نريد دعماً حكومياً لـ«قناة الوطن»
المحامي حسين العصفور: أيادٍ خفية تعمل من أجل إغلاق «الوطن» !
الاستئناف تلغي حكماً لمرزوق الغانم ضد قناة «الوطن»
إحنا مضربين نبي حقوقنا
المكافحة: ضبط مواطنة بحوزتها مواد مخدرة ومؤثرات عقلية
عدسات لاصقة تُفقد فتاة بصرها.. والأطباء يحذرون من كارثة صامتة
الكويت تبحث مع الأمم المتحدة جهود حماية المرأة وتعزيز التشريعات ضد العنف
إسكان المرأة تدعو المواطنات ممن لديهن طلب مسكن مؤجر من سنة 2010 وما قبل لتحديث بياناتهن
Tweets by WatanNews
!function(d, s, id) { var js, fjs = d.getElementsByTagName(s)[0], p = /^http:/.test(d.location) ? 'http' : 'https'; if (!d.getElementById(id)) { js = d.createElement(s); js.id = id; js.src = p + "://platform.twitter.com/widgets.js"; fjs.parentNode.insertBefore(js, fjs); } } (document, "script", "twitter-wjs");
89
موقع الوطن الإلكترونية – حقوق الطبع والنشر محفوظة
Top