مقالات  
نسخ الرابط
 
   
   
 
  A A A A A
X
dot4line

تفكير آخر في الإرهاب وسنينه

فهمي هويدي
2014/09/23   11:21 م

شكرا لتصويت

التقيم التقيم الحالي 5/0
writer image



العامل الديني يمثل طاقة روحية هائلة يمكن توظيفها في النهوض بالحاضر والمستقبل كما يمكن توظيفها في تدمير الاثنين

القهر والظلم اللذان عاش في ظلهما العراق هما التربة الحقيقية التي استنبتت ظاهرة داعش وأطلقها


أدعو الى التفكير مرة ثانية في مقصود الحرب على الإرهاب قبل ان نكتشف اننا تورطنا في حرب على الجبهة الغلط.

(1)
قبل أي كلام في الموضوع ينبغي ان نعترف بأنها فكرة عبقرية، لا أعرف الأبالسة الذين أطلقوها، ولكني أشهد بذكائهم الذي جعل الإرهاب عنوانا لزماننا وسلطوا علينا «داعش» لتكون برهانا عليه يستنفر الأمة ويؤجج مشاعر النفور والغضب في جنباتها، وللأمانة فان الجماعة لم يقصروا في خدمة مخطط الأبالسة، لأنهم ما برحوا يقدمون للعالم - بالصوت والصورة - الأدلة التي تسوغ المسارعة الى الخلاص من شرورهم.
حتى الآن، فان مشروع داعش كما هو ماثل أمامنا يوجه الينا حزمة من الرسائل يمكن اختزالها في العناوين التالية: في الفراغ المخيم، فان نذر الاعصار وشراراته بسبيلها لأن تهدد الجميع ولن يستثنى من ذلك أحد انسوا الربيع والديموقراطية وأحلام التغيير والاصلاح السياسي، فليس هذا وقت الحديث عن شيء من ذلك العنوا اليوم الذي ظهر فيه الإسلام السياسي وابتلينا بالدولة الإسلامية وأطل علينا فيه وجه الخلافة. الدفاع عن الوجود يستلزم التمترس وراء الأنظمة القائمة والرضا بما هو سيئ منها لأن البديل اسوأ وأتعس لا يحدثنا أحد عن فلسطين، فقد صارت الحرب ضد الإرهاب قضية العرب المركزية في حسابات الظرف الراهن فان اسرائيل لم تعد عدوة ولكنها حليفة في مواجهة خطر الإرهاب المشترك - الشغل الشاغل وجوهر القضية المركزية هو كيف نحصن العالم العربي ونخلص المنطقة من الوباء الذي ضرب سورية والعراق؟ الدور الأمريكي والقوة الأوروبية والقواعد العسكرية الأجنبية مرغوبة ومطلوبة بشدة لوقف تقدم الاعصار الذي تعجز القوة العربية عن التصدي له.

(2)
الثابت ان الأنظمة العربية لم تتسلم الرسائل فحسب، ولكنها احتفت بها أيضا، بدليل انها انضمت بسرعة الى ركب المستنفرين، وقدمت الى الحملة ما استطاعت اليه سبيلا، من النفقات الى التسهيلات والقواعد والتدريبات، اضافة الى كل متطلبات التجهيز والتعبئة، ذلك ان عنوان «الإرهاب» الفضفاض أتاح لكل طرف ان يجد لنفسه مكانا تحت رايته، ووفر فرصة ذهبية لكل نظام لكي يتخلص من معارضيه وهو مطمئن الى السند والغطاء، حتى اسرائيل دخلت على الخط وادعت انها بدورها من ضحايا الإرهاب، الذي تهم به كل مقاومة للاحتلال، وصارت آية الاعتدال الوحيد عندها تتمثل في القبول بما يسمى التنسيق الأمني مع أجهزتها لحصار المقاومة وقمعها، وتابعنا في الاعلام الاسرائيلي أخيرا جدلا حول ما اذا كانت حركة حماس وجها آخر لداعش أم لا (جريدة «الشروق» نشرت في 9/19 ترجمة لمقالة الدكتور تسفي برئيل خبير الشؤون العربية في «هاآرتس» تحت عنوان «حماس ليست داعش».
أدري ان صدمة الصعود المفاجئ كانت كبيرة، واتفهم المسارعة الاقليمية والدولية الى محاولة التصدي لها واجهاض مخططاتها، كما انني اتفهم سعي الأنظمة العربية الى الانخراط في الحشد ورفع لواء الحرب ضد الإرهاب، على الرغم من ان كل طرف كان له تفسيره الخاص للإرهاب، وبعض تلك التفسيرات ينطلق من حسابات داخلية لا علاقة لها بداعش وطموحاتها، لكن ما أستغربه حقا ان تتحول الحملة الى لوثة تحتكم الى الانفعال والحسابات السياسية وتلغي أي تفكير معمق في الموضوع يتحرى خلفياته ويسبر أغواره، ذلك ان داعش ليست فقط جماعة انشقت عنها الأرض فجأة، وساعدتها عوامل عدة على الانطلاق والزحف لاقامة الدولة واعلان الخلافة، وانما هي قبل ذلك وبعده فكرة لها جذورها التي تجاهلها كثيرون، نمت في بيئة مواتية لم تنل حظها من الرصد والتحقيق.
ملاحظتي هذه موجهة الى عناصر النخب بالدرجة الأولى، في مصر بوجه أخص، الذين غرقوا في الاستقطاب حتى تخلى أغلبهم عن دورهم البحثي والتنويري، وفوجئنا بأنهم توزعوا على مواكب المهللين والمتصيدين والمرشدين الأمنيين.
اننا لا نحتاج الى عقل رشيد لكي نكيل الهجاء لداعش، ونتهم كل من لا يعجبنا بأنه داعشي الهوى يكتم انتماءه، كما انه بمقدور أي أحد ان يدعو الى ابادة التنظيم وكل من انتسب اليه، لكننا سنحتاج الى ذلك العقل الرشيد لكي نصل الى جذور الفكرة لنقتلعها ولكي تدرك البيئة التي استنسبتها لكي نطهرها وننقيها، حتى لا نفاجأ بالداعشية تطل علينا من منافذ أخرى، وظني ان النخب التي لم تفقد توازنها هي الأكثر تأهيلا للقيام بهذه المهمة.

(3)
لدي اجتهاد متواضع في هذا الصدد، لا أدعي انه يجيب على الأسئلة المتعلقة بفهم الظاهرة وتقصي جذورها، لكنني اعتبره دعوة لفتح باب المناقشة حول الموضوع، ذلك انني أزعم ان الداعشية لها جذورها في المذهب الوهابي، تم استدعاؤها وانضاجها في ظروف الظلم والقهر الذي عاش في ظله العراق طوال السنوات العشر الأخيرة.
أستشهد في تحرير النقطة الأولى بمقالة مهمة كتبها أحد الباحثين السعوديين الجادين، الدكتور خالد الدخيل أستاذ العلوم السياسة بجامعة الملك سعود، وقد نشرتها صحيفة الحياة اللندنية (في 9/21 الحالي) تحت عنوان: مراجعات الوهابية تأخرت كثيرا، اذ أشار فيه الى التشدد الذي اتسمت به الحركة الوهابية، الذي كان من سماته رفض الآخر والتسرع في تكفيره، وهو ما أرجعه الى ظروف سياسية واجتماعية تم تجاوزها، وفي هذا السياق ألقى السؤال التالي:
هل ان تطرف داعش. واستناده الى نصوص وهابية يعني ان الأخيرة امتداد للأول ومسؤولة عنه؟ وفي السؤال اشارة واضحة الى ان أدبيات الدولة الإسلامية (داعش) استعانت في بناء رؤيتها النظرية بأدبيات الحركة الوهابية التي انطلقت في الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر الميلادي، وهو اذ ينفي ان تكون داعش بتطرفها ووحشيتها امتدادا للحركة الوهابية، الا انه ذكر ان «أهم ما تمخض عنه ظهور داعش على المستوى المحلي هو ما يبدو انه بداية مراجعة فكرية لأدبيات الحركة الوهابية التي تأخرت كثيرا، لكنها يجب ان تستمر وأن تتعمق».
هذا الكلام الشجاع يسلط الضوء على خلفية الظاهرة التي لم تحظ باهتمام كثيرين، ممن تنافسوا في هجاء مشروعها وفي تقديم البلاغات الكيدية ضد الناشطين الإسلاميين بدعوى انهم جميعا «دواعش»، وفضلا عن انه يقدم نموذجا للدور المسؤول الذي يقوم به المثقف، فانه يفسر لنا الى حد كبير لماذا يلقى مشروع داعش ترحيبا ملحوظا في الأوساط السلفية.
فيما خص البيئة التي استدعت الفكرة واستنبتتها فالملاحظ ان هناك تركيزا على دور القوى الخارجية في اطلاقها، اذ فضلا عن الاشارة التقليدية الى دور المخابرات الأمريكية، فان الاشارات الأخرى اتجهت صوب ايران تارة وتركيا تارة أخرى، وليس هناك ما يؤيد الاحتمال الأول، سوى ان داعش قدمت خدمة كبرى للنظام السوري من حيث انها بالنموذج الوحشي الذي قدمته عززت فرص بقائه ولم تؤثر على استمرار النظام العراقي، وهو ما يريح ايران كثيرا باعتبارها حليفة للاثنين، أما الاحتمال الثاني فهو مستبعد، لسبب جوهري هو ان تركيا أدرجت داعش ضمن المنظمات الإرهابية المحظورة في شهر أكتوبر عام 2013 أي منذ عام تقريبا، كما انها خلال تلك المدة أوقفت ستة آلاف شخص وأجرت تحقيقات معهم للاشتباه في تأييدهم أو انتسابهم الى داعش، علما بأن عناصر المنظمة احتجزت 49 تركيا من العاملين بالقنصلية في الموصل بعد سقوطها بأيديهم، واستمر الاحتجاز مائة يوم تقريبا ولم يتم اطلاق سراحهم الا هذا الأسبوع.
واذا لم يكن ثابتا أو واضحا دور العوامل الخارجية فان دور العوامل الداخلية في العراق أكثر ثباتا ووضوحا، ذلك انني أزعم ان القهر والظلم الذي عاش في ظله العراق، والذي كان أهل السنة أكثر من عانوا منه، هو التربة الحقيقية التي استنبتت ظاهرة داعش واطلقتها، وقد قرأت للباحث اليساري السوري سلامة كيلة تحليلا نشرته (في 9/18) الصحيفة الالكترونية «العربي الجديد»، نقل فيه عن وزراء في عهد رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي قولهم ان الرجل هو من أطلق عناصر داعش من سجن أبوغريب وأرسلهم الى سورية، ورغم علمي بأن الأستاذ كيلة من الباحثين المدققين الا انه ليس لدى مصدر آخر يؤيد هذا الكلام، مع ذلك فاني لا استبعده، وفي ذهني تجربة المجموعة التي عرفت باسم تنظيم «التكفير والهجرة»، الذي تشكل في أجواء التعذيب التي شهدتها السجون المصرية في ستينيات القرن الماضي تحت قيادة شكري مصطفى، ودارسو تلك المرحلة يعرفون ان فكر تكفير النظام انتشر تحت التعذيب في السجون آنذاك، الأمر الذي اضطر مرشد الاخوان آنذاك الى محاولة الرد عليه بالكتاب الذي صدر له تحت عنوان: «دعاة لا قضاة».
لسنا بحاجة الى استدعاء شواهد وأدلة المظلومية التي تعرض لها أهل السنة بعد سقوط نظام صدام حسين، فالجرائم التي ارتكبت بحقهم على أيدي متعصبي الشيعة على كل لسان، ولست في وارد استعادة صفحات ذلك السجل الوحشي، لكنني فقط أردت ان أقول ان مظلومية أهل السنة وأي مظلومية مماثلة يتعرض لها الناس بمثابة التربة المواتية التي أتاحت لفكر داعش ان يروج وينتعش، كما انها دفعت العشائر والقبائل السنية الى الالتفاف حول مشروعها ومساندته، ليس قبولا به أو حبا فيه بالضرورة، ولكن باعتباره الاطار الذي اتيح لتحدي الظلم الذي تعرضوا له والقهر الذي عانوا فيه.

(4)
لدي نقطة أخيرة تتعلق بالموضوع أثيرت في مصر أخيرا، ذلك ان نقدا وجه الى فكرة استدعاء الدين لمواجهة أوضاع اجتماعية أو سياسية قائمة، وهو ما ظهر جليا في نموذج داعش، وما ظهر قبل ذلك في تجربة أفغانستان وطالبان، وقد اعتبر ذلك النقد بمثابة دعوة الى اخراج الدين من المعادلة لتجنب النتائج الكارثية التي تترتب على توظيفه واقحامه في تعقيدات المجال العام.
هذه الفكرة التي ترددت على عدة ألسنة بصياغات مختلفة تمثل قراءة انتقائية وتبسيطية للتاريخ والواقع، هي انتقائية لأن استدعاء الدين الى المجال العام لم يكن سلبيا على طول الخط، وتجربة لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية التي أبهرت العالم في سبعينيات القرن الماضي تدل على ذلك، وقبلها تجربة اليسوعيين في الباراجواي التي ازدهرت في القرن الثامن عشر وتجربة رجل الدين المسيحي الثائر لاس كازاس الذي قاوم الاستعمار الاسباني في أمريكا اللاتينية وانتصر للعبيد والسكان الأصليين، وفي التاريخ الإسلامي فان ثورة الذنج الشهرية في العراق ومقاومة الاستعمار في العالم العربي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانت كلها حركات جهادية استدعت الدين ووظفته دفاعا عن الاستقلال في السودان والجزائر وليبيا، كما ان الثورة الإسلامية في ايران كانت نموذجا آخر لتوظيف الدين في مواجهة الطغيان.
أما التبسيط في ذلك الرأي فيكمن في الاكتفاء بالدعوة الى استبعاد الدين واخراجه من المعادلة في مجتمع يمثل الدين مكونا أساسيا فيه، من ثم فبدلا من توظيفه في الاتجاه الصحيح والايجابي لخدمة المصالح العليا للمجتمع، فان الدعوة تكتفي بالدعوة الى تقليص دوره واضعاف تأثيره في المجال العام.
ان العامل الديني يمثل طاقة روحية هائلة يمكن توظيفها في النهوض بالحاضر والمستقبل، كما يمكن توظيفها في تدمير الاثنين، والمشكلة في هذه الحالة لا تكون في قيمة الدين، وانما فيمن يفشلون في استثمار الطاقة التي يمثلها في تحقيق الحلم بدلا من اجهاضه، وليس من حسن التدبير أو الشجاعة الفكرية ان نلقي بتبعة فشلنا وخيبتنا على الدين.


فهمي هويدي
أخبار ذات صلة dot4line
التعليقات الأخيرة
dot4line
 

!function(d, s, id) { var js, fjs = d.getElementsByTagName(s)[0], p = /^http:/.test(d.location) ? 'http' : 'https'; if (!d.getElementById(id)) { js = d.createElement(s); js.id = id; js.src = p + "://platform.twitter.com/widgets.js"; fjs.parentNode.insertBefore(js, fjs); } } (document, "script", "twitter-wjs");
350.0087
 
 
 
إعلن معنا
موقع الوطن الإلكترونية – حقوق الطبع والنشر محفوظة
 
Top